خيار التوجه الى الشرعية الدولية: استراتيجية ام مأزق مفاوضات

بقلم: د. وسام الرفيدي*

عندما اعتلى الرئيس الراحل ياسر عرفات منصة الأمم المتحدة في العام 1974، أصدرت جبهة الرفض الفلسطينية حينها بياناً ندّد بالخطوة باعتبارها تنازلاً. وقد بدا موقف جبهة الرفض في حينه -عند العديدين- عدمياً، خاصة أنّ عرفات حينها وعندما تحدث عن غصن الزيتون الفلسطيني، كان يتمنطق مسدسه كقائد لحركة تحرّر تتمسك بخيار القتال المسلّح، وبالحد الأدنى هناك مَنْ اعتقد أنّ موقف الرفض جاء من باب المناكفة السياسية لقيادة المنظمة. واليوم، بعد أن أصبح خيار التدويل والشرعية الدولية هو الخيار الوحيد لقيادة المنظمة والسّلطة معاً، يبدو من العلمية بمكان وضع خطوة عرفات حينها في سياق تاريخي متصل من التحول في الفكر والممارسة السياسية للقيادة السياسية المتنفذة في الحقل السياسي الفلسطيني.

لا تكمن المسألة في وضع الخيارات المتاحة أمام أيّة قوة سياسية في تضاد مطلق؛ فتلك عدمية بامتياز بل وأكثر. إنّ التجربة التاريخية ذاتها أثبتت أنّ تناغم الخيارات أمام حركة التحرر كان عاملاً هامّاً في تحقيق الانتصار. ولكن يبقى السؤال: أي الخيارات هي الرافعة الواقعية لممارسة الخيارات الأخرى في لحظة تاريخية محددة، وفتح الطريق أمامها للتحقق، وتالياً ما طبيعة الصراع التي تستوجب هذا الخيار الريادي بالذات دون غيره، من جهة، ومن جهة ثانية ما طبيعة موازين القوى التي تلقي بثقلها على قرار القيادة السياسية لاختيار هذا الخيار دون غيره في لحظة؟

كان لصمود المقاومة منذ انطلاقها في العام 1967 وتخطّيها لهزيمتها في الأردن ما استوجب لخسارتها لأطول خط حدودي للاشتباك مع العدو الصهيوني، وإعادة بنائها لقواعدها في لبنان الدور الأساسي في وصول عرفات لمنصة الأمم المتحدة، وفي ذلك درس تاريخي مهم. ليست البلاغة السياسية ولا تطويع الخطاب السياسي بما يتناسب والشرعية الدولية هي ما يوصل لطرح القضية الوطنية على المحافل الدولية، بل أنّ المقاومة على الأرض والتي تفرض حضوراً وتخلق موازين يصعب تجاوزها وتحشد قطاعات دولية مؤيدة على المستويين الرسمي والشّعبي هي ما يطرح القضية على المحافل الدولية. وعرفات ذاته كان يدرك ذلك؛ إذ خيّر المجتمع الدولي بين إبقاء غصن الزيتون أو إسقاطه، وعند إسقاط الغصن فالبديل جاهز: مسدسه على خاصرته. لكن هل استمر عرفات والقيادة الفلسطينية المتنفذة في التعامل وفق هذا الإدراك؟

ليس شعار تدويل القضية الفلسطينية بجديد ناهيك عن أنّ تدويلها قد تم منذ نشأة الكيان الصهيوني بقرار دولي، بل وقبل ذلك بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. هذا من زاوية، ولكن من زاوية ثانية، فالتدويل منشأه الأساس ينبع من أنّ خطر الحركة الصهيونية ولاحقاً كيانها يطال ليس فقط فلسطين والوطن العربي، بل ويتعدى ذلك للساحة الإقليمية والدولية، وبما يتفق وتوصيف جورج حبش للكيان الصهيوني بأنّه إمبريالية صغرى. لقد طال نشاط الكيان الصهيوني دولاً وحركات في افريقيا وآسيا والمعسكر الاشتراكي السابق من باب العلاقة الايديولوجية والمصالح المشتركة بين الصهيونية والامبريالية، وبالتالي فالخطر الصهيوني جعل من المقاومة الفلسطينية لعقود رأس حربة عالمية في النضال ضد الامبريالية والصهيونية، ناهيك عن انه وضع القضية الفلسطينية لعقود أيضا على جدول اهتمام أحرار العالم ككل. وتالياً للقرار الدولي بإنشاء "دولة إسرائيل" تتالت القرارات المتعلقة بالقضية الوطنية سواء كانت من مجلس الأمن أو من الجمعية العمومية، حتى باتت ركاماً من القرارات التي لم تجد طريقها للتنفيذ، وهنا ينبغي التوقف.

على النقيض من السذاجة الليبرالية المتغنية بالشرعية الدولية، ينبغي الإشارة إلى أنّ الشرعية الدولية ذاتها هي نتاج موازين القوى على المستوى العالمي، حيث أنّ التطوّرات والتغيّرات في قرارات الشرعية الدولية بما يتعلق بالقضية الفلسطينية كانت أيضاً نتاج للتغيير في موازين القوى. بالرجوع مثلاً لقرار تقسيم فلسطين ودعم انشاء دولة يهودية، على سبيل المثال لا الحصر، كان للموقف السوفيتي الظالم ذو الحسابات الغبية بتأييد تقسيم فلسطين وتأييد إنشاء (دولة أسرائيل) الأثر الحاسم في صدور القرار، ولاحقاً وفي ظل إختلاف موازين القوى كان للإتحاد السوفيتي الدور الايجابي في صدور العديد من القرارات عن الجمعية العمومية المساندة للقضية الفلسطينية. حيث كان للإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي الدور الأساسي بتصنيف الحركة الصهيونية كحركة عنصرية وقد تم نقض هذا القرار بعد إنهيار المعسكرين. ليست الشرعية الدولية ولا مؤسساتها بمعزل عن التوازنات والتكتلات الدولية، ولنا أن نتخيل مثلاً لو أنّ الصين وروسيا، والثانية تحديداً، لا يقفان وقفة حازمة دفاعاً عن سورية منذ سنين؟ كنّا امام تطبيق البند السابع من ميثاق الامم المتحدة بما يكفل توفير (الشرعية الدولية) لإحتلال سورية والسعي لإسقاط النظام. وفي السياق الفلسطيني، فإنّ الضرب على وتر التدويل اليوم والمطالبة بالشرعية الدولية لإحقاق الحقوق الوطنية سيكون ضرباً من الاوهام، طالما يتم طرحه بمعزل عن المقاومة على الأرض، تماماً مثلما جرى بالبهروجة الإعلامية المصاحبة لإنتزاع مكانة فلسطين كعضو مراقب والذي تم تصويره كفتح جديد في الممارسة الفلسطينية. وحتى مَنْ يعتد بالموقف الروسي في سورية اليوم ليعول عليه موقفاً لصالح القضية الفلسطينية، عليه أوّلاً أن ينتزع الاتمام الروسي عبر المقاومة على الأرض ويكف عن وضع (بيضاته) في سلة الإدارة الأمريكية كما هو الحال اليوم. 

ولقد كان التطور الأبرز في مسار السعي خلف التدويل هو المطالبة بعقد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط والذي أخفق منذ طرحه مطلع الثمانييات، حتى مع الثقل السوفيتي خلفه وهو صاحب المقترح أصلاً وقد تلقفته منظمة التحرير حينها بكل تلاوينها. ولكن الفارق بَيِّن بين الأمس واليوم، في مطلع الثمانينيات كانت المطالبة بالمؤتمر الدولي تسير بذات الوقت مع خيار المقاومة المسلحة ووجود الثورة الفلسطينية كقوة اقليمية فاعلة، فيما اليوم يختلف الحال تماماً. يمكن دون تردد إعتبار توقيع إتفاقية أوسلو، في أحد تداعياتها ومدلولاتها، إدارة الظهر للشرعية الدولية باتجاه (شرعية الراعي الأمريكي)، فالمتمسك بالشرعية الدولية يطالب بتطبيق العديد من القرارات الدولية لصالح الشّعب الفلسطيني ولكن دون أيّة أوهام. فدون فرض القضية الوطنية على الارض عبر المقاومة، بطريقة تجعل الكيان الصهيوني يشعر بأنه يخسر تاريخياً، لن ينتزع هذا التوجه سوى الفيتو الامريكي، فالمسألة بالنهاية ليست مسألة ما تريد بل ما تستطيع فرضه.

ولكن لماذا تجري اليوم إعادة التركيز على خيار التدويل والشرعية بحيث يبدو دون مواربة أنه الخيار الوحيد لقيادة السّلطة والمنظمة؟ الجواب بسيط، لم ينتزعوا من مسار أوسلو وخيار التفاوض سوى ما نحن عليه اليوم: مضاعفة الاستطيان والتهويد كأمر واقع، تهميش القضية الوطنية إلى أقصى حد ممكن، تحويل القضية الوطنية من قضية تحرر وطني لخلاف بين كيانين واحد محتل والآخر تحت الاحتلال يستجدي ولا ينفعه الاستجداء. والأهم من ذلك هو تحويل منظمة التحرير واقعياً وليس رسمياً لمؤسسة سلطوية بوظيفة محدّدة كدائرة شؤون السكّان أو كأي بلدية، أو محافظة على أكثر تقدير، والأهم وظيفتها الامنية لادامة سيطرة ذات النهج عبر قمع أية مقوّمات للمقاومة على الأرض. إنني لا أرى في الدعوة للتدويل والعودة للشرعية اليوم سوى ردّة فعل يائسة لصدى يهجس داخل القيادة الفلسطينية بفشل مسار التفاوض منذ العام 1993، فبكل الأحوال ليست القيادة عمياء؛ بل أنّ عملية جرد بسيطة لمسار التفاوض، استعرضنا بعضها أعلاه، كفيلة بأنّ تضع أمامهم حقيقة الكارثة التي لحقت بشعبنا بفعل خيارات هذه القيادة. وما يزيد الطين بلّة، أنّ خيار التدويل والشرعية يُطرح بمعزل عن خيار المقاومة لانتزاع قرار دولي منصف بالحد الأدنى، ولا يهم هنا الحديث عن (المقاومة الشّعبية) فتلك باتت تحمل مضمونا مجتزأ لمعنى المقاومة، ان لم يكن صريحاً في مناهضة المقاومة المسلحة لا بل وضربها!

إذن يمكننا من ناحية قراءة هذا التوجّه على أنّه خطوة يائسة من مسار كارثي باتت القيادة تتلمسه على جلدها، ومن ناحية ثانية يمكننا قراءته كخطوة (تهديدية) للعودة لذات المسار الكارثي، أي التفاوض. إنّ إعلان التوجّه لمحكمة الجنايات، وهو مطلب شعبي ووطني قديم وبامتياز، تلازم في أكثر من مرة مع (إعلانين اثنين) الأوّل أنه توجه جاء نتاج انسداد الأفق التفاوضي؛ ما يعني أنّه ردّة فعل على فشل التفاوض وليس كخيار ثابت، وهذا ما يقود للإعلان الثاني بوقف التوجه للمحكمة الدولية إذا أبدت إسرائيل نيتها بالعودة للمفاوضات شريطة توقف الاستيطان. أمّا أن تشترط القيادة وقف الاستيطان للعودة للتفاوض فتلك نتيجة متأخرة أكثر من عشرين عاماً على تفاوض تم في ظل ابتلاع الأرض وضخ المستوطنين فيها وتهويد القدس، أمّا الربط بين محمكة الجنايات (وهي إحدى مفردات التدويل والشرعية) والعودة للتفاوض فهي توحي مجدداً أنّ النية بالتوجه للمحكمة ليست أكثر من (وسيلة ضغط) من قبل مَنْ لا يملك أصلاً ممكنات الضغط في ظل تخليه عن كل ما من شأنه تعديل الموازين على الأرض.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. وسام الرفيدي: باحث ومحاضر في علم الاجتماع/جامعة بيت لحم