بقلم: د. أحمد مفلح*

الشّعب الفلسطيني ليس كمثله شعب في التاريخ الحديث والمعاصر، حيث ان عملية اقتلاعه من أرضه ووطنه التاريخي لا تمثاله قضية. فقد القي بأكثر من ثلثيه بالقوة والذبح والتنكيل والمجازر في فيافي الأرض والبلدان، بذرائع أسطورية ودينية لا تمت للواقع والحقيقة التاريخية بصلة، وبمساعدة القوى الكبرى المتنفذة في العالم، وارتكازاً على قرارات "الشرعية دولية" التي صاغها القوي او قل جاءت لتعبر عن ميزان القوى الفعلي. لن نتوغّل في وصف واقع الفلسطينيين وقضيتهم التي شارفت على عامها السابع والستين؛ سطّر فيها هذا الشّعب أسمى آيات التضحية ودفع دمه وأبناءه ثمناً لتاريخه وأرضه وحقه بالعودة وكرامته؛ بل سنذهب الى النظر في الشرعية الدولية وكيف يمكن توظيفها في نضالنا التحرري. 

نقطة الانطلاق دعونا نقر ان شعبنا لم تُغره إقامة سلطة له يتلهّى بها باعتبارها وطناً بديلاً ودولة، وهي في الحقيقة منقوصة السّيادة وغير مكتملة الأركان الأوّلية لتسميتها دولة. وعلى الرغم من ذلك حافظ عليها بعض أبنائها، لكنها ليست دولة الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، وللأسف دورها كسلطة محلية افقدها صفة تمثيلهم جميعهم ولو نفسياً أو معنوياً، وبقي قسم كبير، أو القسم الأكبر منهم مهملا الى جانب انه طان كان ملفوظاً ومنبوذاً من أهله العرب، ومنسياً أو غير معترف بوجوده وحقوقه الإنسانية والقانونية ممّن يدّعون الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية والقانون الدولي والحرية.

من البديهيات المعروفة في تعريف أركان أي دولة أن هذه الأركان ثلاثة: الشّعب والأرض والسّيادة. فبالنسبة إلى الركن الأوّل، الشّعب، موجود، وأثبت وجوده وبقاءه على الرغم من كل محاولات شطبه وإبادته وتشتيته وتعريضه لمحو ذاكرته، تصدّى وبقي، وبقيت قضيته نبض قلبه. أمّا الركن الثاني المادي والطبيعي للدولة فهو الأرض، أي البقعة المحددة التي يستقر عليها هذا الشّعب ويمارس نشاطه فوقها بشكل دائم ومستقر، وهو المجال الذي يمكّن السّلطة من فرض سلطتها على من فيه ما يعني استقلاليتها تجاه الدول الأخرى، وهو العامل الضروري لاستقرار الجماعة. والركن الثالث للدولة هو السّيادة، أي تمتع الهيئة الحاكمة بسلطة او قوة كافية تتولى إدارة الشعب (حكمه) والإشراف على ورعاية مصالحه على اقليم الدولة، وحفظ ثرواته واستغلال هذه الثروات من دون تبعية لأي سلطة أو سيادة أخرى، وحماية شعبها ومصالحه امام الغير، وكل ذلك بضمانة وحماية القانون الدولي والشرعية الدولية التي ترعى هذه العلاقات الدولية ومصالح الدول وسيادتها.

والسؤال المهم، هل للفلسطينيين دولة بهذا المعنى؟ وهل السّلطة الفلسطينية الموجودة لكامل الفلسطينيين؟ وهل الأرض (اقليم الدولة المفترض) محمية والسّيادة عليها كاملة؟ وهل تحمي الشرعية الدولية، على سبيل المثال، السّلطة القائمة اليوم على عُشر أرض فلسطين التاريخية؟ وماذا عن الفلسطينيين الآخرين في الشتات، هل من حماية دولية لهم؟

في النصوص، نعم هناك قرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تدعم الحق الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وحتى حقّه في المقاومة؛ ولكن في الممارسة وتنفيذ هذه القرارات لا شيء لمصلحة الفلسطينيين ولو كان صادراً من أعلى هيئة دولية، فلماذا؟

لا يكفي هنا القول بمؤامرة القوى الكبرى ودعمها الكيان الغاصب، فهذا الكلام كمثل تعريف المعرَّف، لا نفع فيه، وبات حقيقة. لكن هل نضع يدنا على خدنا ونتحسّر؟ فالسبب، أو أحد هذه الأسباب هو جهلنا بهذه الحقوق والقرارات، وبالتالي عدم معرفتنا في كيفية توظيفها أو فرضها ومتى وأين. فمن الألاعيب والأدوات التي استغّلها الكيان الغاصب هو توظيف بعض قرارات الأمم المتحدة والاستناد إليها في إقامة كيانه (على سبيل المثال تفسيره قرار التقسيم باعتباره أعطى المبرر والشرعية الدولية لإقامة دولة يهودية خالصة وأخرى عربية، على الرغم من أنّ هذا القرار لم يدعُ أبداً إلى طرد الفلسطينيين من القسم الذي ستقام عليه الدولة اليهودية المقترحة، بل على العكس ضمن لهم داخل تلك الدولة الحقوق المدنية والسياسية والدينية والاجتماعية وحق الانتخاب والترشّح). 

على الرّغم من أنّ هذا الكيان ضرب بعرض الحائط هذه الشرعية الدولية وحاربها وقتل مندوبيها وقصف مقراتها، لكنه في الوقت اللازم يعرف كيف يستغلّها، فلماذا نحن نتجاهل بعض القرارات التي تخدمنا؟ نعرف طبعاً أنّ قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، وتمحى في مجلس الأمن، لكن هذا لا يمنع من التذكير بها ودراستها والمطالبة بها دائماً، وجعلها من صلب ثقافتنا ومناهجنا التربوية لأنها تمنحنا حقوقاً في تقرير مصيرنا وعودتنا والأكثر في الاعتراف بوجودنا. لكن مع التجديد على أنّ هذه القرارات لا قيمة لها مع الضعف، أي أنّ فرض تنفيذها وتحويلها من نصوص إلى واقع هو القوة، في الوقت الذي تعتبر هذه القرارات من أعلى هيئة دولية قوة أيضاً. لذا علينا ألّا ننسى مقاومتنا المشروعة في هذه القرارات نفسها، والمشروعة أكثر بحقنا في فلسطين تاريخياً ووجودياً.

قرارات الأمم المتحدة 

  • من أهم القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة القرار 194 (11 كانون الأوّل 1948) الذي ينص في فقرته 11 على وجوب السّماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم عن فقدان الممتلكات أو الضرر اللاحق بها، وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، وذلك من الحكومات أو السلطات المسؤولة. لا نريد الدخول أكثر في شرح هذا القرار الذي أعيد طرحه في الأمم المتحدة عشرات المرات، فمن نصه يُفهم، ومهما تعامى الكيان الصهيوني وداعموه سيبقى هذا القرار يربكهم، شرط أن يبقى الفلسطينيون متمسكين به ويطالبون بتنفيذه وتطبيقه.

  • من القرارات الأخرى التي تخدم قضيتنا، القرار 1514 (د-15) (تشرين الثّاني 1960) الذي ينص على أنّ من حق جميع الشّعوب أن تقرّر مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وأن تسعى بحرية إلى تحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

  • القرار 2787 (6 تشرين الثّاني 1976) والقرار 2955 (12 تشرين الثّاني 1972) وفيهما أكّدت الجمعية العامة حق الشعوب في تقرير مصيرها والحرية والاستقلال والنضال بما يتلاءم مع ميثاق الأمم المتحدة. والشيء نفسه كرّرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار 3070 (30 تشرين الأوّل 1973) الذي طلبت فيه من الدول الأعضاء الاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب، والحق في استقلالها مع تقديم أنواع الدعم كلها المادية والمعنوية لهذه الشعوب التي تقاتل من أجل استقلالها.

  • القرار 2621 (12 تشرين الأوّل 1970) الذي يؤكّد من جديد على حق الشعوب المستعمرة في الكفاح بكل الطرق الضرورية التي في متناولها ضد الدولة الاستعمارية التي تقمع تطلعاتها. وجاء في القرار أيضاً الحق للشعوب في طلب المساعدة وتلقي الدعم وفقاً لأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة بهدف التصدي للأعمال الموجهة لحرمان الشعوب من حقها في تقرير المصير والحرية والاستقلال، وأن المقاومة المسلحة ضد رفض المستعمر حق تقرير المصير مشروعة.

  • القرار 3236 (22 تشرين الثّاني 1974) الذي جاء فيه أنّ الجمعية العامة تؤكّد من جديد على حقوق الشّعب الفلسطيني في فلسطين غير القابلة للتصرف، خصوصاً الحق في تقرير المصير من تدخل خارجي، والحق في الاستقلال والسّيادة الوطنيين، وحقهم غير القابل للتصرف في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها واقتلعوا منها وتطالب بإعادتهم.


قرارات كثيرة مشابهة في مضامينها الى ما سبق عرضه صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي أعلى شرعية دولية، لكن كما قلنا كان تنفيذ هذه القرارات يصطدم دائماً بمواقف القوى الداعمة للكيان الصهيوني، أي أنّ مشكلة الشرعية الدولية في لاشرعية القوة أو القوة اللاشرعية، فكيف إذا التقت هذه الشرعية الدولية مع مقاومتنا الشرعية والمشروعة؟

هنا تكمن أهمية دور الشّعب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، فلماذا نفرّط بشرعية دولية منحتنا حق المقاومة ومواجهة الدولة المغتصبة؟ تارة بحجة الحل السياسي وأخرى بحجة أنّ المقاومة لا تجدي نفعاً. فإن أرادوها حلاً سياسياً فها هو القانون الدولي وأعلى شرعية دولية تمدنا بالشرائع والقرارات الداعمة لاستقلالنا، وإن أرادوها مقاومة فها هو هذا القانون والشرعية الدولية تعطينا هذا الحق، المهم أن يعرف الفلسطينيون ماذا يريدون. السياسة بهذا المعنى لا تعني استعطاء الدول الكبرى والمؤثرة وتفضيل رضاها عنّا بحثا عن ورقة حسن سلوك منها ثمنها التنازل عن الحقوق او التغاضي عن الوقائع والحقائق. هذا لن ينفع، لأنّ هذه الدول مهما هادنتنا وضحكت علينا لن تغضب الكيان الصهيوني ولو برفة عين. فخلال الأعوام الخمسة والعشرون من المفاوضات منذ عام 1990 إلى اليوم لم تقدم لنا هذه الدول إلّا المراوحة، وتفكيك وحدتنا، والغاء ميثاقنا وخطوطنا الحمر، وقتل عنفواننا، وشطب ثورتنا، وتبهيت تضحياتنا، مقابل تمكين اسرائيل ومدها بكل سبل ووسائل القمع والتغطية ومواصلة الاستيطان. والأخطر في هذا المجال، هو تفريغ حجتنا بشأن المطالبة بالشرعية الدولية من محتواها، حتى يأست هذه الشرعية منا فلم تعد حتى تهتم بان تعلن أو تصدر أي قرار ذي شأن تجاه قضيتنا ومصيرنا.

ما العمل؟

قلنا بأنّ الشّعب ركن مهم من أركان الدولة، فإذا كانت السّلطة الفلسطينية تعتبر نفسها دولة، فعليها تعزيز هذا الركن الباقي لها، فلا الأرض محدّدة ومحمية وثابتة مع المستعمرات المتزايدة، وتقطيع الطرق والاحتلال الدائم، ولا السّيادة موجودة لا على البر أو البحر أو السماء، فالاحتلال على تخوم كل قرية وكل مدينة، يغلق الحدود ويعتقل ويقطع الخدمات متى شاء والسّلطة تلطم وتنظر، وما بقي سوى الشّعب، أو جزء منه إذا استثنينا الملايين المنتشرة في البلدان خارج فلسطين ولا تمثلهم السّلطة.

لذا، على السّلطة، وعلى القوى والفصائل والجمعيات الفلسطينية العمل على تعزيز دور هذا الشّعب الذي ضمنته أصلاً قرارات الأمم المتحدة من خلال مخاطبتها دائماً "الشّعب"، ونشر ثقافة التعرّف إلى القرارات الدولية التي تنص على الحقوق الفلسطينية لأنّها حجة في يدي هذا الشّعب لمخاطبة الأمم والشعوب الأخرى بمنطق حضاري وسياسي وقانوني يعطي قضيتنا بعداً راقياً وحضارياً وحتى ثوريا،ً ومقاومة أكثر من الصورة السلبية التي رسمت لنا ولمقاومتنا من خلال تصويرها عنفاً وإرهاباً.

هذه القرارات الدولية سلاح، ربما أقل تقانة وتأثيراً، لكنه مع عنفوان شعبنا ومقاومته يمثل صموداً وهجوماً يقلق العدو مهما تظاهر باللامبالاة. وهو سلاح بيد المفاوض الفلسطيني نفسه من جهتين أو ثلاث: رقي مقاومته وشرعيتها، على الرغم من أنّ المقاومة لا تحتاج إلى شرعية أو إذن، لكن تختلف كثيراً صورة المقاومة عن الإرهاب؛ وفي تثقيف شعبه في شأن حقوقه يكسبهم قوة إلى جانبه باعتبارهم ركن الدولة الأوّل والوحيد الباقي له؛ والثالث أنّه بهذا الموقف يحرج الشرعية الدولية نفسها والدول الأعضاء في تنفيذ قراراتها، وبهذا يربك العدو ويخيفه فعلاً.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. احمد مفلح: باحث من فلسطين مقيم في لبنان