* بقلم: وسام الرفيدي

منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1967، تغيرت معالم الخطاب الفلسطيني الرسمي حتى باتت بداياته، في العديد من مفاصلها، لا تمت بصلة لواقع الخطاب الحالي. فمن تحرير فلسطين وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية، مروراً باعتبار الكفاح المسلح الطريق الوحيد للتحرير وصولاً لاتخاذ موقف معادٍ من الأنظمة الرجعية والإمبريالية الأمريكية إلى حل الدولتين واعتبار التفاوض الطريق الوحيد للحل، مع العداء الصريح للمقاومة المسلحة، حتى الانخراط في المحاور العربية الأكثر رجعية واعتبار أمريكا طرف نزيه ومشرف على التفاوض. شتان بين خطاب الفدائيين وخطاب المفاوضين!\

لم تكن تلك التغيرات في الخطاب الفلسطيني، تغيرات ثقافية بالمفهوم الفوكوي بل تغيرات تعكس تغير في ارتباطات قيادة منظمة التحرير السياسية، والتي تؤول بالمحصلة النهائية لتنامي البرجوازية البيروقراطية داخل جهاز المنظمة، لها مصالحها وارتباطاتها الطبقية والسياسية، المحلية والعربية والخليجية تحديداً. ولعل كتابي الباحث خليل نخلة  (أسطورة التنمية) و (وطن للبيع)، وحفنة من أدبيات اليسار الفلسطيني، من أكثر المؤلفات التي أضاءت النور على تلك التحولات الطبقية داخل قيادة المنظمة بارتباطاتها بالرأسمال الخليجي والفلسطيني المهاجر، ما أفرز بالنهاية اتفاقيات أوسلو.

ومع ذلك، ستتناول هذه المقالة، لحدودها كمقالة، متغيرات ذلك الخطاب في مفصل أساس منه ونعني الموقف من المقاومة المسلحة مستحضرين تجربة المقاومة والصمود البطولية لشعبنا وقواه المسلحة في غزة في صيف 2014، معرجين كذلك على تجربة المقاومة اللبنانية في دحر الاحتلال الصهيوني من الجنوب.

كان (نبذ العنف والإرهاب) بنداً أساسياً من الرسالة الموجهة من الراحل عرفات لرابين في أيلول 1993 وهي كانت جزءاً مكملاً من بروتوكول اتفاقية أوسلو نفسها. لم يكن المُطلع على الوضع السياسي بحاجة لكثير من التفكير لإدراك أن التعهد الفلسطيني بنبذ العنف والإرهاب لم يكن سوى إدارة الظهر لخيار المقاومة المسلحة، وقد ترسم هذا التعهد في الاتفاقية نفسها بحيث تلتزم سلطة الحكم الذاتي حسب بنود الإتفاق بمحاربة كل أشكال العنف المسلح ضد الصهاينة. لذلك، ليس من باب التجني والتهويل القول أن الوظيفة الأساسية للسلطة الناشئة كانت تحديداً وظيفة أمنية بالأساس. 

ومع ذلك يمكن القول أن عرفات ولاعتبارات تكتيكية صرف كان يسعى دائما لاستخدام ورقة (المقاومة المسلحة) كورقة ضاغطة مما ولّد قرارات مزدوجة: من جهة تكليف الأجهزة الأمنية بقمع أية أنشطة تسليحية لفصائل المقاومة بالاعتقال والملاحقة والمحاكمة تحت شعار مضلل بامتياز (حماية المشروع الوطني!!!!)، والأمثلة على هذا لا تعد ولا تُحصى، ولعل أكثرها صراحة ملاحقة عناصر تنظيمي الجهاد الإسلامي وحماس واعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية والخلية المسئولة عن تصفية الصهيوني زئيفي. ومن جهة ثانية دعم التصدي المسلح للاحتلال فيما بات يُعرف بمعركة النفق، وكذا دعم مجموعات مسلحة داخل حركة فتح، وتحديداً في الانتفاضة الثانية لتهريب السلاح والقيام بأنشطة عسكرية ضد الاحتلال، ونجزم أن هذا بالذات ما كان خلف تصفية الرئيس الراحل.

لم يكن خيار المقاومة المسلحة، والحال هكذا، خياراً استراتيجياً بقدر ما كان ورقة ضاغطة بدليل ضرب أية فعاليات مقاومة إلا ما كانت بتوجيه حصري من القيادة. لذلك كان واضحاً أن خيار التفاوض هو الخيار الاستراتيجي، ذلك الخيار الذي تأسس في إتفاقيات أوسلو.

كانت تلك بداية مرحلة جديدة من المراجعة الفلسطينية لخيار استراتيجي، نعني به المقاومة المسلحة. إن أهمية المراجعة هنا ليست مسألة اتخاذ قرار إستراتيجي جديد باعتبار التفاوض المنهج الأساس في إدارة دفة الصراع، بل تكمن أهميته، بل خطورته، على ما يحفره في الوعي الفلسطيني من ثقافة جديدة قوامه عدم جدوى المقاومة، وقوة إسرائيل التي يصعب هزمها، وضعف قدرات الشعب الفلسطيني، ما يؤسس بالتالي لثقافة تبريرية مستسلمة ستعكس نفسها تالياً على جيل بأكمله على مستوى الوعي والثقافة السياسيتين، وستصب، في إحدى نتائجها، بتنشيط ثقافة التطبيع والنظر بتشكيك، إن لم نقل بعدائية تلطفاً في الحكم، إلى المقاومة وقدراتها وجدواها. 

ولكن حتى هذه التكتيكات تم صرف النظر عنها بُعيد رحيل عرفات، فقد أعلن أبو مازن مراراً، ومارس فعلياً، أن خيار القيادة الوحيد هو التفاوض وأن عهده لن يشهد (انتفاضة مسلحة)، وبالتالي تجلى الخطاب المُرَاجِع الجديد بأبهى صوره: التفاوض خيار وحيد والعمل المسلح مرفوض وملاحق بوضوح ودون رتوش. 

وقد تداخلت مكونات كثيرة في هذا الخطاب، تدعمه وتبلوره، فقد بدأ شعار (المقاومة السلمية) يأخذ حيزه كمكون أساسي في الخطاب المُرِاجِع الجديد الحالي، كما تم فعلياً وضع مكون (المقاومة الشعبية) في سياق مختلف عما كان معروفا سابقاً. من البديهي أن أية مقاومة تكتسب زخماً شعبياً يلتف حولها ويرفدها ويدعمها ويساهم فيها هي مقاومة شعبية، لذلك كانت الثورة الفلسطينية والانتفاضة الشعبية والمقاومة في غزة مقاومة شعبية بإمتياز، جمعت بشكل خلاق بين كافة أوجه المقاومة ومنها قطعاً المقاومة المسلحة. كانت مخيمات الأردن ولبنان وسوريا تعج بالمقاتلين والمليشيات الشعبية المستعدة للمقاومة، بإلتفاف شعبي كما ظهر في العام 1982 إلى حد ما، وكانت كذلك الانتفاضة الأولى بكل فعالياتها والمشاركة الشعبية فيها، فيما حققت المقاومة في غزة التفافاً ظهر بشكل ملموس في صيف 2014. كلها كانت مقاومة شعبية، ولكن المكون الجديد (المقاومة الشعبية) كما رَوّج له إعلام المراجعة، والذي بات يشكل محوراً أساس من الخطاب الجديد الحالي تم وضعه في سياق محدد: (مقاومة) تدير الظهر لخيار المقاومة المسلحة وتغدو مجرد ورقة ضغط لحلحلة الوضع المتجمد في التفاوض. وبالتالي كانت، وفق هذا السياق، (مقاومة) على النقيض من المقاومة المسلحة، بدليل أنها وفي تصريحات العديد من قيادات السلطة مقترنة برفض صريح للمقاومة المسلحة، بل ومقترنة بملاحقة النشاط المسلح.

مكون ثالث برز في الخطاب الجديد الحالي وهو التوجه للأمم المتحدة، سواء كان عبر التقدم بطلب (العضو المراقب)، أو كان عبر السعي الحالي لطلب تحديد مهلة زمنية لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولتين. إن حجم الضجة الإعلامية والأنشطة المدعومة من السلطة وغيرها١ التي أقيمت لدعم طلب (العضو المراقب) لم تتناسب مطلقاً مع تأثيرات هذا الاعتراف والتعويل والمراهنة عليه كما تم تصويره في الخطاب الرسمي: إنتصار تاريخي!. من البداهة بمكان أن شعبنا حقق نصراً دبلوماسياً ما باعتراف الجمعية العمومية بفلسطين (دولة مراقب) ولكن من البداهة أيضاً أن كل هذا دون فعالية كفاحية ضد الاحتلال على الأرض تفرض عليه مراجعة حسابات، لن يغدو سوى نصراً على الورق. ولكن كان واضحاً أن القيادة الرسمية بتهويل خطوة الذهاب للأمم المتحدة إنما تسعى (لانتصار) في زمن عزّت في الانتصارات الملازمة لها، ناهيك عن مزيد من الحفر في الوعي والثقافة السياسيتين حول جدوى النضال لدبلوماسي بديلاً للمقاومة المسلحة.


نحن إذن أمام مراجعة أولى للخطاب الفلسطيني، مراجعة تهيل التراب على خيار المقاومة المسلحة للمرحلة التاريخية السابقة، مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتؤكد على خيار جديد: خطاب التفاوض بمكونات جديدة (المقاومة السلمية والمقاومة الشعبية والتوجه للأمم المتحدة).

ومن المفيد إعادة التأكيد هنا: إن كل ما يقال، وهو صحيح لدرجة كبيرة، حول تراجع قيم الجماعية والنضال والتضحية والتضامن الاجتماعي، وغيرها من القيم التي ميزت، وليس مصادفة، مراحل محددة من النضال الوطني، وهي الثورة المعاصرة والانتفاضة الأولى. نقول إن هذا التراجع يعود في ركن أساس منه إلى الترسانة الثقافية التبريرية المرافقة للخطاب المُرَاجِع الجديد الذي يتحول فيه العدو الصهيوني إلى طرف آخر نختلف معه، والمقاومة المسلحة مغامرة غير محمودة العواقب وتخرب المشروع الوطني، والتجمع البشري اليهودي في فلسطين ليس تجمعاً استيطانياً عنصرياً بل تنطبق عليه مكونات التجمعات السياسية، فيها الأصدقاء والمؤيدين، الأمر الذي يمهد الطريق لثقافة التطبيع وتداعياتها على الوعي والثقافة الوطنية. أما الركن الثاني كما نراه فهو طبيعة السياسة الاقتصادية للسلطة والمُقربة والمراقبة من الصهاينة والمؤسسات الرأسمالية الامبريالية الكبرى كالبنك الدولي وال USAID وصندوق النقد والتي أغرقت الفلسطيني في هم القروض والهموم المالية الفردية حتى بات أكثر من 85% من الموظفين مرتبطين بتلك القروض، ما يعزز الهم الفردي للخلاص الذاتي على حساب الهم الوطني العام. كل ذلك نعتقده ترسانة مقترنة بخطاب المراجعة الذي أسست له السلطة الناشئة بفعل إتفاقيات أوسلو. 

والمتتبع للخطاب الفلسطيني الرافض، إن لم نقل المعادي، للمقاومة المسلحة كان يدعم موقفه تاريخياً (بحجج) تتنوع من عدم ملائمة الجغرافيا مروراً بعدم الإسناد العربي وضعف القدرات البشرية لشعبنا وصولاً إلى عدم تفهم الرأي العام العالمي. ليس هنا مجال المساجلة مع هذه الترسانة، ولكن يمكن القول بجزم أن تجربتيّ المقاومة المسلحة في لبنان وقطاع غزة قد ردت تماماً على سلسلة الحجج أعلاه.

كانت تجربة المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان مثالاً صارخاً على قدرة أسلوب المقاومة المسلحة على دحر الاحتلال من بيروت والجنوب ككل. فمنذ العام 1982 مروراً بطرد المحتل في العام 2000 وحتى هزيمة المحتل في آخر عدوان له، أثبت أن المقاومة ليست فقط قادرة على الصمود والدفاع عن الأرض بل ودحر الاحتلال، وهذا الاستنتاج دعمته تصريحات جنرالات الاحتلال ووزرائه ولجان التحقيق في فشلهم، أي باختصار لم تعد (قدرة المقاومة المسلحة) محض تحليل سياسي/ نظري، بل وواقعاً تاريخياً، وهذا تحديداً، ما جعل حزب الله في السنوات الأخيرة، يحتل تلك المكانة المميزة في قلوب العرب، رغم التحريض الرجعي الطائفي الموتور.

أما في قطاع غزة، ورغم كل التحفظات، وحتى الإدانات، لاتفاق التهدئة، فقد تمكنت المقاومة ليس من الصمود فحسب، بل وإيقاع الخسائر الموجعة بالعدو وإجبار مستوطني غلاف غزة على الرحيل ما خلق تداعيات سياسية واستخبارية وعسكرية موجعة للمستويين السياسي والأمني لدولة الصهاينة لا زالت تتفاعل حتى اليوم، ولن تنتهي سريعاً. ومع ذلك وُجد مَنْ يقزِّم ويطعن في مقاومة لبنان وفلسطين، الأولى من خلال التحريض الطائفي الموتور على حزب الله، والضرب على وتر سني/شيعي، خاصة مع دخول مقاتلي حزب الله للبنان لإسناد النظام ضد المجموعات الإرهابية وقطع طريق تمددها إلى لبنان. أما في فلسطين فالعزف لدى هذا الخطاب يضرب على وترين: الأول استخدام حجم الخسائر التي لحقت في شعبنا كمقدمة للطعن بالمقاومة وتحميل المقاومة المسؤولية، وليس في هذا فقط تبرئة من جرائم الصهاينة بل وتصوير النضال وكأنه رحلة إستجمام لا تتطلب تضحيات، ما يعني تشويه وعي الجماهير واستعداديتها للمقاومة. أما الوتر الثاني فهو إتخاذ إتفاق التهدئة مدخلا للطعن بالمقاومة نفسها، علماً أن مَنْ  ينتقد التهدئة كان يعمل حثيثاً ومنذ اليوم الأول لقبر المقاومة بالتعاون مع المصريين والإسرائيليين عبر ما سُمي بالمبادرة المصرية، وأكثر من ذلك: جرى إطلاق صفة (تجار حرب) على مقاتلي غزة في الأيام الأولى للعدوان. 

ندرك تماماً أن إتفاق التهدئة فرضته توازنات وحسابات سياسية لحركة حماس وتماس (سلطتها) مع مصر، وحماس هي الفاعل الأقوى في المقاومة والقادر، بالتالي، على فرض (إتفاق التهدئة) دون النظر لتحفظات الفصائل المقاتلة الأخرى، وكان القطريون والأتراك في صلب تلك الحسابات والتوازنات، وهذا ما يستحق المراجعة من قيادة حماس نفسها، وكيف أن حساباتها وتوازناتها السياسية حرمت المقاومة من قطف ثمار بطولتها وبطولة شعبنا، ولكن هذا شيء والطعن في المقاومة المسلحة شيء آخر تماماً.

بالمحصلة، ورغم نجاعة وبطولة المقاومتين في غزة ولبنان، فإن مراجعة جديدة للمراجعة السابقة لم تتم، المراجعة السابقة هي خيار التفاوض وإدارة الظهر للمقاومة المسلحة، فيما المراجعة الجديدة تعني مراجعة المراجعة ذاتها، والوقوف بإخلاص وجدية أمام التجارب الناجحة في لبنان وغزة. 

ومراجعة المراجعة المطلوبة، وطالما أن المراجعة السابقة حايثتها ترسانة من مكونات ثقافية جرى استعراض بعضها أعلاه، فمن المفترض أن يحايث مراجعة المراجعة التأكيد على مكونات ثقافية جديدة: الثقة بالذات وبقدرات المقاومة وتعزيز قيم الجماعية والتضامن والثقة بالانتصار ومغادرة منطق الذات المهزومة نحو ذات تندرج في كل جماعي مقاوم.

وليست المراجعة المطلوبة عملية ثقافية بالتأكيد وإلا لكنا واهمين، الأمر الذي يجعلنا نجزم أنها لن تتم إلا عبر النضال ضد الاحتلال والضغط الشعبي على القيادة السياسية. فخيار التفاوض، رغم فشله ومنذ أكثر من 20 عام بتحقيق شيء اللهم زيادة الاستيطان والتحكم الاستعماري والقمع وإشاعة ثقافة الهزيمة، وهذا حتى باعترافات تفلت هنا وهناك من أركان العملية التفاوضية الفلسطينيين، إلا أنه خيار يعكس إرتباطات سياسية واقتصادية وطبقية تجد مصلحتها هنا بالذات في وضع حد للصراع يكفل تصفية القضية الوطنية على قاعدة مصلحة الصهاينة وبفتات طبقي وسياسي للنظام السياسي الناشئ بعد أوسلو. وما الشعار الذي ترفعه القوى الرافضة للتسوية، بضرورة (مراجعة نهج التفاوض) إلا شعاراً بات للاستهلاك الشعبي من باب الاعتراض والتمايز لا أكثر، في ظل إندراج تلك القوى، إلى هذا الحد أو ذاك، بذات النظام السياسي الراعي للتفاوض، فيغدو المطلب صيحة في واد لا يسمع صداها إلا مطلقيه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
*وسام الرفيدي: باحث ومحاضر في علم الاجتماع، جامعة بيت لحم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1.  حتى مؤسسة امبريالية كال US Aid  دعمت أنشطة لمؤسسة غير حكومية على هامش التوجه لطلب (العضو المراقب) فيما عُرف وقتها بحملة الكرسي!