جريمة تهجير الفلسطينيين في غزة

بقلم ريكاردو سانتوس*

مقدمة

عند النظر الى العملية العسكرية الاسرائيلية المسماة "الجرف الصامد" على قطاع غزة، يجب عدم اغفال انها تأتي في سياق وجود صراع مسلح مستمر واحتلالحربي ممتد منذ عقود. كما وانه لا يجب اغفال حقيقة ان  سكان قطاع غزة يعيشون تحت حصار إسرائيلي مشدد مفروض عليهم بقون النار منذ اكثر من سبعة أعوام، وهذا يشكل احد أنواع العقاب الجماعي، ويعد خرقاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني.1 ان الحالة الموجودة قبل اندلاع الحرب على غزة تموز 2014، والتي تتمثل في الانتهاكات المستمرة والممنهجة للحقوق الفردية والجماعية الأساسية للفلسطينيين، والإجراءات العقابية والقهرية غير القانونية التي اتخذتها اسرائيل بحق الفلسطينيين في سائر الارض المحتلة قبل هجومها الأخير على قطاع غزة، تجعل من الادعاء الإسرائيلي بالحق في الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة – الهادف لتبرير الهجمات العسكرية على المدنيين في المنطقة-   إدعاء غير شرعي وليس له اي سند قانوني او اخلاقي.  

ان التهجير الجماعي الحالي لسكان قطاع غزة لم يحدث نتيجة للعدوان الإسرائيلي فحسب،2 والذي اتسم  باستهداف المدنيين متسببأً بقتل العديد منهم بشكل لا يمكن تبريره، بل هو أيضاً نتيجة لتعليمات رسمية طبقتها القوات الإسرائيلية التي أمرت "مئات الآلاف من سكان القطاع بالخروج من أحياء بأكملها، والانتقال إلى ملاجئ وأماكن أخرى".3 تعد الطرق التحذيرية التي استخدمتها اسرائيل في طلب إخلاء المدنيين لمنازلهم من خلال المكالمات الهاتفية والقاء المنشورات عشوائيا،4 إضافة إلى طريقة أخرى استخدمتها إسرائيل خلال حروبها السابقة على قطاع غزة تسمى "الطرق على الأسطح"، وهي إطلاق صواريخ تحذيرية غير متفجرة لضرب أسطح المنازل قبل قصفها كتحذير للمدنيين لإخلاء منازلهم،5 هذه الطرق جميعها اعتبرت مؤخراً من قبل الأمم المتحدة غير مشروعة.6

يشكل التهجير القسري، ما لم يتطلب ذلك أمن المدنيين، وما لم يكن لأسباب عسكرية إضطرارية"، انتهاكا للقانون الإنساني الدولي العرفي، كما نصت على ذلك المادة129،7 وانتهاكاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب (اتفاقية جنيف الرابعة)،8 وهي انتهاكات ترقى إلى جرائم الحرب،9 والجرائم ضد الإنسانية.10

لقد لوحظ من قبل هيئة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة (ICTY)، " أن غياب وجود خيار حقيقي [للمدنيين] يجعل تهجيرهم غير قانوني".11 كما انه لا ينبغي تفسير طبيعة التهجير "القسري" بطريقة ضيقة؛ حيث لا يقتصر مفهوم القسرية هنا على استخدام القوة الفيزيائية المباشرة، بل قد يحدث التهجير قسرا بسبب " التهديد باستخدام القوة أو الاضطهاد، كالذي يحدث بسبب الخوف من العنف، الإكراه، الاحتجاز، الاضطهاد النفسي، أو إساءة استعمال السلطة ضد شخص أو أشخاص بعينهم، أو ضد أي شخص آخر، أو عن طريق استغلال ظروف قسرية"، والتي لا تعطي للشخص خياراً حقيقياً، وبالتالي هذا النوع من التهجير، يعتبر تهجيرا غير طوعي (قسري).12

يتمحور الهدف الرئيس لهذا المقال حول السياسات الإسرائيلية التي حرمت سكان قطاع غزة من امكانية ان يكون لديهم خيار طوعي، الامر الذي يجعل من تهجيرهم جريمة حرب.

يشار هنا ان التهجير القسري بوصفه جريمة ضد الانسانية، لن يتم تناوله في هذه المقال، نظرا لخصوصيته بموجب معاهدة روما، حيث يجب إثبات أن هذه الجرائم تشكل جزءا من سياسة الدولة أو سياسة حكومية منظمة،13، لاثبات وقوع الجريمة، وهذا ما لا تتسع له هذه المقال.14

جرائم الحرب واتفاقية روما

القانون الدولي الإنساني يتضمن  مجموعة من القواعد التي يشكل انتهاكها جرائم حرب. ووفقا للقانون الدولي الإنساني العرفي، "تشكل الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي جرائم حرب".​​ 15وبالمثل،فإن النظام الأساسي لمعاهدة  روما ينص على أن "قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها؛يعتبر جريمة حرب في النزاعات الدولية المسلحة.16

أولا: تجدر الإشارة إلى أن إحدى المتطلبات التي  تجعل الجرم أو العمل العدائي جريمة حرب هي كون الضحايا "أشخاص محميين"،17 أي مدنيين. وبالنظر الى سياق التهجير الجماعي في قطاع غزة، فان أولئك الذين يجدون أنفسهم مهجرين داخلياً هم أشخاص لا يشاركون في الأعمال العدائية، وبالتالي فهم يمثلون فئة الأشخاص المحميين.

ثانيا: فيما يتعلق بجرائم الحرب، لا يعد وجود النزاع المسلح وحده عنصراً كافيا بذاته من أجل الملاحقة القضائية،18 بل يجب أيضا إثبات الصلة – أو العلاقة السببية- بين أفعال المتهم خلال النزاع المسلح والنتائج، اذ "لا تعد كل الجرائم المرتكبة أثناء النزاع المسلح جرائم حرب".19 يعد التهجير القسري لسكان قطاع غزة نتيجةً مباشرةً للأعمال الحربية الإسرائيلية، مثل قصف المنازل والمناطق المكتظة بالسكان والتحذيرات الموجهة للسكان الفلسطينيين لإخلاء هذه المناطق، وبالتالي تحقق هذه الأعمال المتطلبات التي وضعها القضاء الدولي بشأن العلاقة السببية بين الأفعال العدائية والنتائج خلال او في النزاع المسلح.20

ثالثاً:حتى يعتبر الانتهاك جريمة حرب، يجب أن يكون هناك خرق "جسيم/جدي" للقانون الدولي الإنساني. يعد هذا المصطلح جزءاً من تعريف جرائم الحرب الذي وضعه القانون الدولي الإنساني العرفي،21 ويمكن العثور على متطلبات مشابهة لاثبات وقوع الجريمة في المادة 17(1)(d).22

يشير التقييم الأولي لمدى تأثير الوضع الحالي [الحرب] في قطاع غزة على تهجير الفلسطينيين إلى درجة كافية، ولا شك فيها من خطورة، لتحريك العمل القضائي. حيث بلغ عدد الفلسطينيين المهجرين داخلياً ذروته في السادس من آب،23 ليصل إلى حوالي نصف مليون مهجر، مما يشكل 30% من سكان قطاع غزة،24100,000 شخص منهم إما دمرت منازلهم بشكل كلي أو لحقت بها أضرار جسيمة لا يمكن إصلاحها.25 وحتى تاريخ 24 آب، وصل عدد البيوت التي دمرتها إسرائيل كلياً أو لحقت بها أضرار جسيمة إلى 17,500 منزلاً،26 بينما وحتى تاريخ 15 آب، كان عدد المنازل التي تم إلحاق الضرر بها ولكنها ما زالت قابلة للسكن حوالي 5,635 منزل، أما المنازل التي تضررت بأضرار طفيفة فوصل عددها حوالي 33,625 منزل.27

القصف الإسرائيلي للمنازل والتحذيرات أفعال غير قانونية

يعتبر القصف الإسرائيلي لبيوت السكان في قطاع غزة، والأساليب التحذيرية التي تطالبهم بمغادرة منازلهم، ممارسات غير مشروعة بحسب النظام القانوني الدولي ذي الصلة،28 المسند بسوابق قضائية واجتهادات فقهية. تعد هذه العمليات سياسة حربية معتمدة من قبل اسرائيل تؤدي بشكل غير شرعي للتهجير القسري، لدرجة أنه يمكن فهم مثل هذه الممارسات على أنها تحرم الضحايا من حقها في الاختيار. والأهم،  ليس فقط تدمير المنازل، بل تحذير الناس على مغادرة منازلهم، والذي يعد عملا اكراهيا يقود الى تهجير غير قانوني للمدنيين.29 وحتى الأشخاص الذين اتخذوا قراراً بمغادرة بيوتهم على الرغم من عدم تلقيهم أية رسائل تحذيرية، وتم قصف بيوتهم (وبالتالي دمرت جزئياً، أو كلياً) فهم أشخاص محرومون من حق الاختيار الطوعي، ذلك أنه "من المستحيل الادعاء بتمتعهم بحق الاختيار باعتبار  اعلانهم عن موافقتهم على المغادرة ( ذلك أنهم كانوا على استعداد لمغادرة بيوتهم بحكم المر الواقع)، حيث ان الظروف التي يعيشونها والمحيطة بهم تفقد حالة القبول من أي.30

من ناحية أخرى، تعد التحذيرات الإسرائيلية – سواء من خلال صواريخ التحذير، أو المكالمات الهاتفية أو المنشورات – التي تطالب الفلسطينيين بمغادرة منازلهم، تحذيرات غير قانونية نظرا لكونها لا تتضمن أية احتمالية لإلغاء الهجوم في حال اختيار المدنيين عدم مغادرة منازلهم،31 وبالتالي فإنها تشكل تهديداً صريحاً للمدنيين للتعرض للأذى المتعمد في حال اختاروا عدم الاستجابة لهذه التحذيرات.32

الاستثناء القانوني:  عدم جواز نقل السكان "إلا في حال كان هناك أسباب متعلقة بأمن السكان أو أية أسباب عسكرية ملحة"  

لا يمكن تفسير التهجير القسري للفلسطينيين في قطاع غزة، والناجم عن القصف الإسرائيلي أو التحذيرات، بأنه ينسجم مع الاستثناء المقرر بموجب القانون الدولي الإنساني، واي تفسير بهذا الاتجاه يعتبر خاطئاً. فيما يتعلق بتلك الهجمات، فيمكن اعتبارها غير قانونية، بل يمكن وصفها بالعشوائية وغير المتكافئة. 

اولاً:يتطلب مبدأ القانون الدولي الإنساني من جميع الأطراف التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وكذلك التمييز بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية:33 "الهجمات العشوائية هي تلك التي لا توجه إلى هدف عسكري محدد، أو تلك التي تستخدم فيها الأسلحة التي لا يمكن توجيهها إلى هدف عسكري محدد".34 وهكذا، فان الهجمات الإسرائيلية غير قانونية لانها تستهدف منازل المدنيين، ويتم خلالها قصف مناطق مدنية بأسلحة غير دقيقة. وبلا شك، فان ضخامة الضرر وعدد المتضررين غير المباشرين من آثار تلك الاسلحة، يشير الةى وجود سياسة تهدف الى الحاق الاذى بالمدنيين.  

فيما يتعلق بهذا الجانب، ومنذ بداية العملية العسكرية، قامت اسرائيل وبشكل صريح باستهداف الممتلكات المدنية، مثل بيوت عائلات المقاتلين في قطاع غزة.35 ولكن، حسب القانون الدولي، فان تصنيف اسرائيل لبعض المدنيين على أنهم إرهابيون لا يجعل منهم أهدافاً عسكرية.36

فيما يتعلق بالجانب الثاني – استخدام الأسلحة غير الدقيقة – فإنه ينبغي على المرء أن يولى انتباهاً لكون "الهجمات العشوائية المحظورة تشمل قصف جوي أو بوسائل أخرى يعتبر لهدف عسكري واحد او عدة أهداف عسكرية متباعدة وغير مرتبطة تقع في منطقة تحتوي على تجمعات مكتظة بالمدنيين والمواقع المدنية".37 وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، فان القوات الإسرائيلية قامت باستخدام "المدفعية الثقيلة غير المصممة للتصويب الدقيق"،38 كما حدث في 30 تموز في القصف الذي تعرض له مخيم جباليا للاجئين.39 بالإضافة إلى ذلك، قال مسؤولون في الأمم المتحدة ان الشظايا المتواجدة في الموقع تحتوي على رموز مطابقة لقذائف مدفعية من عيار 155 ميليمتر والتي تم استخدامها في هجمات اسرائيلية سابقة. وكما أوضح الخبراء، فان دقة المدفعية كسلاح تعد "تقديري"، فالمدفعية ليست "سلاح دقيق التصويب"، حيث أنها "تطلق عموما من على بعد يصل الى 25 ميلا [حوالي 40 كيلومترا]، ويعتبر فعالا في حال سقوط قذائفها على بعد 50 ياردة [حوالي 45 متر] من الهدف".40 نظراً لافتقار المدفعية للدقة، فإنها تحجب أي قدرة على التمييز بين المدنيين والعسكريين، أو بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. كما أوضح محقق هيومان رايتس ووتش، بيل فان اسيفلد فأن "قصف المناطق المأهولة بالسكان بالمدفعية الثقيلة هو قصف عشوائي بطبيعته".41 وأخيرا، تجدر الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي يمتلك أسلحة دقيقة،42 ولكن يبدو أنه لا يستخدمها في العديد من الغارات الجوية التي تم التحقيق فيها والتي استهدفت مناطق مكتظة بالسكان. إن استخدام الأسلحة غير الدقيقة كان أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط عدد كبير جداً من الضحايا المدنيين.

ثانيا:يقضي مبدأ التناسب بأن " شن أي هجوم قد يؤدي إلى إصابات في صفوف المدنيين، أو قد يحدث أضراراً في ممتلكاتهم، أو قد يتسبب –جراء استهداف هدف عسكري- في ذلك بالحقا اذى مفرط بالمدنيين بالقياس إلى الفائدة العسكرية المتوقعة، فانه هجوماً محظوراً".43  ليس هناك شك في أن الهجوم الإسرائيلي عموماً ينتهك مبدأ التناسب: فحتى تاريخ 20 آب قامت إسرائيل بقتل 1,999 شخص،  حوالي 1,434 (72٪) منهم من المدنيين (وهذا لا يعني ان النسبة المتبقة من غير المدنيين).

وقد اعترف مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بعدم مشروعية هذه الاعتداءاتخلال الاجتماع الذي عقده بتاريخ 23 تموز 2014:

 يدين [المجلس] بأشد العبارات الانتهاكات الواسعة النطاق... ولا سيما آخر اعتداء عسكري شنته إسرائيل جواً وبراً وبحراً على قطاع غزة المحتل، وانطوى على هجمات غير متناسبة وعشوائية، شملت القصف الجوي للمناطق المدنية، واستهداف المدنيين والممتلكات المدنية في عقاب جماعي مخالف للقانون الدولي، وغير ذلك من الأعمال، بما فيها استهداف الطواقم الطبية والإنسانية، التي قد تشكل جرائم دولية.44

تلك الهجمات الاسرائيلية، غير القانونية بطبيعتها لعشوائيتها وعدم تناسبها، هي أساس التهجير القسري للفلسطينيين، وهي السبب الذي حرم الفلسطينيين من وجود أي خيار حقيقي عدا الفرار الى مناطق هي نفسها غير آمنة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التحذيرات الإسرائيلية للسكان هي أيضا مخالفة للقانون الدولي الإنساني ولا يجوز اعتبارها سببا يمكن تبريره للتهجير: جاء في احد المنشورات التحذيرية الاسرائيلية أن "كل الذين يتجاهلون هذه التعليمات ويفشلون في الاخلاء فورا، يعرضون حياتهم، وحياة أسرهم للخطر"45. ان الفهم  الإسرائيلي لاولئك الذين لا يصغون للتحذيرات ويصبحون بالتالي أهدافا مشروعة، يعد انتهاكا واضحا للقانون الدولي الإنساني العرفي الذي ينص على أن "جميع الالتزامات فيما يتعلق بمبدأ التمييز وسير العمليات العدائية تبقى قابلة للتطبيق حتى لو لم يغادر المدنيون منطقة العمليات بعد صدور تحذير بالإخلاء".46 في هذا السياق، تصبح التحذيرات الإسرائيلية، في الواقع، شرطاً اجباريا، لا يترك للمدنيين حق الخيار، سوى خيار الرحيل. وعلاوة على ذلك، فإن هذه التحذيرات – والتي تشمل تحذيرات وهمية، وإبلاغ الأسر بأن منازلهم سوف تتعرض للهجوم دون أن تتبعها أية هجمات، والتي تؤدي الى زيادة غير مبررة في عدد المهجرين47 - تعد تحذيرات غير حقيقية، انما " تهدف في المقام الأول إلى بث الذعر بين السكان أو إجبارهم على ترك منازلهم لسبب غير سلامتهم"،48  في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني.49

تشكل الهجمات الإسرائيلية على المدنيين وممتلكاتهم أعمالا "لا يسمح بها القانون الدولي" وهي أعمال تجعل التهجير القسري الذي تسببه اسرائيل فعلا غير قانوني.51 في الوقت ذاته، بالنظر إلى ما ذكر أعلاه، فإن إسرائيل تمتلك أسلحة دقيقة التصويب، ولكنها  تختار عدم استخدامها عند مهاجمة المناطق المكتظة بالسكان. حيث أن فظاعة الهجمات الإسرائيلية، وما نتج عنها من ارتفاع في عدد الضحايا المدنيين، يمكن أن تؤخذ على أنها جرائم متعمدة، تهدف إلى بث الرعب والخوف بين السكان المدنيين في قطاع غزة – على نحو مشابه لما تفعله سياسات التحذيرات الوهمية و "الطرق على الاسطح".51

اعتبارات أخرى

تؤكد المادة 49 من اتفاقية جينيف الرابعة على أنه "[...]يجوز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلي أو جزئي لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية [...]ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع"،52 وهي مادة تنص عليها أنظمة قانونية اولية أخرى.53 إن الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة منذ عام 2007، فاقم من تداعيات جريمة الحرب المتمثلة بالتهجير القسري وذلك بانتهاك قواعد القانون الدولي الانساني، حتى تلك القواعد التي تنص على أن التهجير القسري قد يكون مشروعاً في حالات محددة.  فقيام إسرائيل بحصار قطاع غزة والتضييق على محاولات إعادة الإعمار، أضرت بحق المهجرين "في العودة الطوعية الآمنة إلى بيوتهم وأماكن اقامتهم المعتادة عند انتهاء مسببات تهجيرهم."54 وفي هذه الحالة، نستطيع الاستنتاج بأن اسرائيل فشلت بعد انتهاء حروبها على قطاع غزة أعوام 2008 و 2009 و 2012 في إعادة السكان المهجرين داخلياً " إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع" وذلك من خلال عدم السماح لهم بإعادة إعمار بيوتهم.

وعلاوة على ذلك، فإن 80٪ من سكان قطاع غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، وذلك كنتيجة مباشرة للحصار الإسرائيلي المفروض عليهم منذ سبع سنوات.55 وهو الحصار ذاته الذي منع ولا يزال يمنع العديد من المهجرين قسرا في عام 2009 و 2012 من إعادة إعمار منازلهم والعودة إليها. كما ويحد الحصار من قدرة المنظمات الإنسانية الدولية على تقديم المساعدات التي يعتمد عليها سكان القطاع. كما أن هذا الحصار ينتهك حق المهجرين في " ظروف مناسبة من حيث المأوى والنظافة والصحة والسلامة والتغذية"،56 والذي يعد حقاً مكفولاً  بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.57

التحقيق والمقاضاة

بالإمكان مقاضاة جرائم الحرب أمام المحاكم المحلية، وبالرغم من ذلك فإن إسرائيل ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني على سن التشريعات اللازمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة،58 ولكن "التشريعات اللازمة لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب الإسرائيليين غائبة كليا عن القانون الإسرائيلي".59 وعلاوة على ذلك، فقد أثبتت التحقيقات الإسرائيلية أنها غير نزيهة ولا تفي بمتطلبات القانون الدولي، وبالتالي لا تحقق الغرض (محاسبة المجرمين وانصاف الضحايا) في حين لا تبدو الملاحقات القضائية [...] وشيكة".60 ومن ناحية أخرى، فإن النظام القضائي للسلطة الوطنية الفلسطينية برغم انه "قادر على الحفاظ على سيادة القانون في الأرض الفلسطينية المحتلة"، إلا أن ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية تبقى محدودة جدا ولا تطبق على الإسرائيليين.61

عندما تخفق أنظمة العدل المحلية، نتيجة لعدم قدرتها (كما في حالة في الأرض الفلسطينية المحتلة) أو لعدم وجود رغبة (كما في حالة إسرائيل) في إجراء التحقيق أو المقاضاة، فيجب عندها على المحكمة الجنائية الدولية أن تتدخل.62 كون أن هناك جرائم حرب يسمح بالنظر فيها أمام المحكمة، فإن التحقيق والمقاضاة في هذه الجرائم تعتمد على منح الولاية للمحكمة الجنائية الدولية - السلطة القضائية على الجناة ( إسرائيليون) أو على الأرض (فلسطين).63 لا شك في أن توقيع فلسطين على إتفاقية روما أو تبني إعلان يمنح المحكمة الجنانئية سلطة قضائية محددة على فلسطين يعتبر أكثر الخيارات الممكنة؛ نظرأ لاستحالة تطبيق البدائل الأخرى - وهي انضمام إسرائيل لمعاهدة روما أو قيام مجلس الأمن  بإحالة الوضع في قطاع غزة الى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية او تشكيل محكمة دولية خاصة64 - وذلك لأن كل من اسرائيل ومجلس الأمن لم يظهرا أي مبادرة مماثلة في السابق.

وأخيراً، يمكن لمبدأ الولاية القضائية العالمية أن يحقق العدالة ضد جرائم الحرب في قطاع غزة، والذي يسمح لأي دولة،65 بملاحقة الجاني، حتى في حال غياب أي صلة شخصية أو إقليمية بين الدولة الملاحِقة والجرم - بغض النظر عن المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة أوجنسية المجرم- وهو مبدأ ينطبق على مجموعة محدودة من الجرائم الدولية. تجسد جرائم الحرب جرائم تعاقب عليها الولاية القضائية العالمية،66 وفقا للقانون الدولي الإنساني العرفي.67 ومع ذلك، على الرغم من كون التحقيق أو المقاضاة بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية ممكن من الناحية النظرية، فإن غياب الإرادة  السياسية للدول تجعل من الصعب جداً متابعتة الجرائم قضائياً على أرض الواقع.68

ملاحظات ختامية

بناء على تكليف المحاكمة الجنائية بالمساهمة في اعادة " المجتمع ما بعد مرحلة الصراع [...] للعودة إلى الوضع الذي كان يعيش الأفراد فيه بأمان"،69 يمكن القول بأنه فيما يتعلق بالتهجير الجماعي القسري الراهن لسكان قطاع غزة، فإن محاسبة المجرمين في هذه المرحلة، ليس فقط خطوة مهمة في سبيل المساهمة في تحقيق الشعور بالأمن بين الضحايا وتشجيعهم على العودة، بل انها إجراء غير مسبوق قد يساعد على التغيير في التصرفات الإسرائيلية في الحرب وسياستها تجاه قطاع غزة، وفلسطين بأكملها.

-------------------------------------

*ريكاردو سانتوس، باحث من البرازيل متطوع مع مركز بديل.

 

[1]اللجنة الدوليةللصليب الأحمر (ICRC)، "القانون الإنساني الدولي العرفي - المادة 103 عقوبات جماعية" الزيارة في 22 آب 2014، http://www.icrc.org/customary-ihl/eng/docs/v1_rul_rule103. اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "اتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب (اتفاقية جنيف الرابعة)"، 12 آب 1949، 75 الوحدة 287،http://www.refworld.org/docid/3ae6b36d2.html,،المادة 33.

[2]منظمة العفو الدولية، "أسئلة وأجوبة – صراع اسرائيل/ غزة، تموز  2014" 25 تموز 2014، 4،MDE 15/017/2014،

http://www.amnesty.org/en/library/asset/MDE15/017/2014/en/e916c6f0-4729-48a8-bcf8-22ac8484df17/mde150172014en.pdf.

[3]منظمة العفو الدولية، "إحاطة - إسرائيل / الأراضي الفلسطينية المحتلة: على المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم الحرب،" 1 أغسطس 2014، 5،MDE 15/019/2014،http://www.amnesty.org/en/library/asset/MDE15/019/2014/en/96f0c22b-0938-4645-83e1-7a472edb014a/mde150192014en.pdf.

[4]منظمة العفو الدولية، "أسئلة وأجوبة – صراع اسرائيل / غزة، ،تموز 2014". هيومن رايتس ووتش، "غزة: وفاة ضربة جوية تثيرالمخاوف حول الأسلحة الهجومية الأرضية،" 22 يوليو 2014،http://www.hrw.org/news/2014/07/22/gaza-airstrike-deaths-raise-concerns-ground-offensive;عين الشرق الأوسط، "هيومان رايتس ووتش تنتقد تحذيرات الإخلاءالاسرائيلي من غزة،" 16 تموز 2014،http://www.middleeasteye.net/news/video-human-rights-watchs-bill-van-esveld-discusses-gaza-evacuees-1129028315.

[5]هيومن رايتس ووتش: "إسرائيل / فلسطين: الضربات الجوية الإسرائيلية غيرالمشروعة قتل المدنيين _،" 15 تموز 2014،http://www.hrw.org/news/2014/07/15/israelpalestine-unlawful-israeli-airstrikes-kill-civilians.

[6]استنتج تقرير غولدستون للأمم المتحدة _،لدراسة ممارسة الطربقة التحذيرية للإخلاء "طرق الأسطح"،والتي استخدمت خلال عملية الرصاص المسكوب،في الفترة 2008-2009،أن هذه الطريقة "شكل منأشكال الهجوم ضدالمدنيين الذين يقطنون المبنى." مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة، 25 أيلول 2009،para.37،HRC-A-12-48،http://www.refworld.org/docid/4ac1dd252.html. في حين أن الممارسات الإسرائيلية الأخرى،ويمكن أن تصل أيض اإلى حد جرائم الحرب تبرز من نطاق هذه المادة.

[7]اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "القانون الدولي الإنساني العرفي – تنص المادة 129 من قانون التهجير،" 24 تموز 2014،http://www.icrc.org/customary-ihl/eng/docs/v1_cha_chapter38_rule129.

[8]اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "اتفاقية جنيف الرابعة"،المادة 49.

[9]المحكمة الجنائية الدولية،روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، 1998 ، http://www.icc-cpi.int/nr/rdonlyres/ea9aeff7-5752-4f84-be94-0a655eb30e16/0/rome_statute_english.pdf, Article 8(2)(b)(viii) and 8(2)(e)(viii)

 

[10]المرجع السابق المادتين،7(1)(d) and 7(2)(d).

[11]المحكمة الجنائية الدولية "،المدعي العام ضد ميلورادكرنوييلاك،القضية رقمIT-97-25-A،الاستئناف الحكم،" 17 أيلول 2003،الفقرة. 229،http://www.icty.org/x/cases/krnojelac/acjug/en/krn-aj030917e.pdf.

[12]المحكمة الجنائية الدولية "،المدعي العام ضد كرستيتش،القضية رقمIT-98-33-T،محاكمة القيامة" 2 آب 2001،الفقرة. 529،http://www.icty.org/x/cases/krstic/tjug/en/krs-tj010802e.pdf.

[13]المحكمة الجنائية الدولية،النظام الأساسي لمحكمة روما الجنائية الدولية، المادة7(2)(a)

[14]غيدو أكوافيفا "التهجير القسري والجرائم الدولية" (UNHCRتموز 2011)، 13،PPLA / 2011/05،http://www.refworld.org/docid/4e09a5622.html.

[15]اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "القانون الدولي الإنساني العرفي - القاعدة 156. تعريف جرائم الحرب،" 6آب 2014،http://www.icrc.org/customary-ihl/eng/docs/v1_cha_chapter44_rule156?OpenDocument&highlight=occupation#Fn_22_5.

[16]المحكمة الجنائية الدولية،النظام الأساسي لمحكمة روما الجنائية الدولية، المادة8(2)(b)(viii)

[17]  أكوافيفا "التهجير القسري ولا يزال الجرائم الدولية،" 7.

[18]  وليام شاباس، المحكمة الجنائية الدولية: التعقيب على نظام روما الأساسي (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، 2010)، 202.

[19] المرجع نفسه

[20] كوناراك وآخرون. (IT-96-23 / 1-A)، الحكم، و 12 تموز 2012، الفقرات 58-59. مستشهد به بالموافقة في: كاتانغا وآخرون. (ICC-01 / 04-01 / 07)، القرار المتعلق في اعتماد التهم، 30 سبتمبر 2008، الفقرة. 382. مقتبس في المرجع نفسه.

[21]  اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "القانون الدولي الإنساني العرفي - القاعدة 156. تعريف جرائم الحرب."

[22] المحكمة الجنائية الدولية، روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة 17 (1) (د).

[23]  تويتر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "1،370 مدنيا قتلوا + 500Kالنازحون في غزة"، 6 آب 2014، https://twitter.com/UNOCHA/status/497047943539863552.

[24] تويتر  مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية _، "ما يقرب من 30٪ من الناس في غزة = المهجرين،" 5 آب 2014، https://twitter.com/UNOCHA/status/496680500015419393.

[25] مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية - الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقرير حالة الطوارئ غزة (اعتبارا من 15 آب، 2014، 0800 ساعة)، 16 آب، 2014، 6، http://www.ochaopt.org/documents/ocha_opt_sitrep_15_08_2014.pdf.

[26]  مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية - الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقرير حالة الطوارئ غزة (اعتبارا من 20 آب، 2014، 0800 ساعة)، 21 آب 2014، 2، http://www.ochaopt.org/documents/ocha_opt_sitrep_20_08_2014.pdf.

[27] مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية - الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقرير حالة الطوارئ غزة (اعتبارا من 15 آب 2014، 0800 ساعة)، 1. راجع

[28] على سبيل المثال، المحكمة الجنائية الدولية، قضية المدعي العام ضد دورديفيتش، No.IT-05-87/1-T، المحكمة البدائية،  23 شباط 2011، para.1631, 1632 and 1634, http://www.icty.org/x/cases/djordjevic/tjug/en/110223_djordjevic_judgt_en.pdf.

[29] وعلاوة على ذلك توفر المحكمة الجنائية الدولية النظام القانوني الذي يمكن من خلاله فهم أن الممارسات الإسرائيلية الحالية - والتي، تشبه القوات الصربية،تشمل أيضا تدمير المنازل ومطالبة الناس بإخلاء بيوتهم – وبذلك ترك الفلسطينيين بلا "خيار حقيقي"سوى الهروب، ليس هذا وحسب، حيث  أنهم امتلكو النية لأفعالهم: "تصرفت قوات الصرب ضمن الهدف المطلوب". المرجع نفسه، الفقرة. 1650.

[30] المحكمة الجنائية الدولية "، كرنوييلاك الاستئناف الحكم" الفقرة. 229.

[31] على سبيل سبيل المثال، هيومن رايتس ووتش "غزة: الجنود الإسرائيليين يطلقون النار ويقتلون المدنيين الفارين" 4 آب 2014، http://www.hrw.org/news/2014/08/04/gaza-israeli-soldiers-shoot-and-kill-fleeing-civilians

[32] المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، "أيام كثيرة منذ أسقطنا هذا العربية الطيارة تحذير سكان Shuja'iyaلاجلاء." 20 يوليو 2014 https://twitter.com/IDFSpokesperson/status/490811849718259712/photo/1: "كل من يتجاهل هذه التعليمات ويفشل في اخلاء منزله يهدد حياته  وحياة أسرته بشكل مباشر للخطر." وبالإضافة إلى ذلك، وفقا لهيومن رايتس ووتش "يمكن لأطراف النزاع استخدام التحذيرات للتسبب بالتهجير القسري، وتهديد المدنيين بالأذى المتعمد في حال لم يلتزموا بها ". هيومن رايتس ووتش "Q & A: 2014القتال بين إسرائيل وحماس" 3 آب، 2014 http://www.hrw.org/news/2014/08/03/qa-2014-hostilities-between-israel-and-hamas.

[33] اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، "القانون الدولي الإنساني العرفي - القاعدة 1. مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين،" 22 تموز 2014، http://www.icrc.org/customary-ihl/eng/docs / v1_cha_chapter1_rule1.

[34] هيومن رايتس ووتش، "Q & A: 2014القتال بين إسرائيل وحماس".

[35] تويتر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، "منذ بدء عملية الجيش الإسرائيلي ضد حماس ، استهدفنا 11 منزل من منازل كبار أعضاء حماس في غزة" 9 يوليو 2014، https://twitter.com/IDFSpokesperson/status/486852057567997952.

[36] هيومن رايتس ووتش، "Q & A: 2014القتال بين إسرائيل وحماس".

[37]  المرجع ذاته