الغرب، إسرائيل وفلسطين: قراءة تاريخية نقدية

بقلم: جيرمي كوربن*

منذ انتخابي عضواً في البرلمان البريطاني عام 1983، وأنا أشارك وأُدافع باستمرار عن القضايا العادلة والمتعلّقة بحقوق الإنسان للشّعب الفلسطيني. ومع ازدياد تطرّف سياسات اسرائيل بحق الشّعب الفلسطيني على مرّ السنين، الا ان تأثير هذه السياسات ظل بسيطاً على الرأي العام. وبرغم ان سرعة التّحول بطيئة بطئ الحلزون فيما يتصل بتوسيع جبهة الذين يؤمنون أنّ السّلام يمكن أن يتحقّق فقط من خلال الاعتراف الكامل بحقوق الشّعب الفلسطيني، الا إنّه من الجدير الإشارة هنا إلى أنّ الحكومات الأوروبية واقعة تحت ضغط سياسي كبير من الرأي عام. على سبيل المثال، أوضح وزير الخارجية وِليَم هيج في بيان له الشهر الماضي منهجية الحكومة البريطانية بخصوص الأزمة المستمرة في غزة، وعلى الرغم من أنّه لم يعطِ الإجابة التي أردت سماعها، إلّا أنّه اعترف بأنّ سياسة الاستيطان سياسة خاطئة، وأنّه يجب رفع الحصار عن غزة. ومن المثير للاهتمام أنّ غالبية النواب الذين سألوا الوزير عن قضية غزة أظهروا تعاطفهم مع الشّعب الفلسطيني، بدلاً من السرد الاعتيادي للموضوع وهو أن الحرب المشتعلة هي "حرب بين اسرائيل وحركة حماس". في نهاية شهر تموز، دخل البرلمان في عطلة، وأصبح الوضع أكثر سوءاً مما كان عليه في السابق.

منذ أن بدأ النقاش في البرلمان عن فلسطين ولغاية الآن، يتم التّطرّق وبشكل غير عادي، للحرب العالمية الأولى والدور التاريخي الذي لعبته بريطانيا في الشّرق الأوسط والمنطقة. بالتأكيد، فإنّ دور بريطانيا ليس بالجديد في المنطقة، وكونها كانت قوّة استعمارية كبرى في القرن التاسع عشر، فإنّها كانت تطمع بشكل كبير للسّيطرة على مصادر البترول في الشرق الأوسط، خاصّةً بعد أن قامت قوّاتها البحرية باستبدال الفحم بالنفط. وعليه، فإنّ توطيد العلاقة مع خزانات النفط في العراق وإيران أصبح امراً مهماً. جُمّدت الخصومة بين الإمبراطورية البريطانية والفرنسية أثناء الحرب العالمية الأولى، وذلك لأنّ كلّ منهما اعتبرت ألمانيا عدواً لها، بينما وقفت كل من الإمبراطورية النمساوية والعثمانية إلى جانب ألمانيا. كانت كلّ من فرنسا وبريطانيا تتوقان لنهاية الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمة ألمانيا. وفي عام 1916 وُضِعت اتفاقية سايكس - بيكو سراً وذلك لتقسيم غنائم الحرب. ظهرت هذه الاتفاقية السرّية للعامة بعد حوالي خمس سنوات من انتهاء الحرب، عندما قررت الحكومة البلشفية في الاتحاد السوفييتي الافراج عن أرشيف الإمبراطورية الروسية، الذي كشف عن معرفتهم وتواطؤهم في هذه الخطة. لا نزال نعيش لغاية اليوم الآثار التي ترتّبت على اتفاقية سايكس - بيكو، وربّما بالمثل لا زلنا نعيش آثار وعد بلفور عام 1917 الذي كان محاولةً لارضاء الصهيونية، بدلاً من الرأي العام اليهودي في أوروبا وذلك بوعد اعطاهم أرضاً لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وفي الوقت ذاته وعد الفلسطينيين المقيمين داخل الإمبراطورية العثمانية بالأمان.

سيطر على الانتداب البريطاني عدد من التناقضات الكامنة في النص الأصلي لوعد بلفور، لكنّها انتهت بتصويت الأمم المتحدة على إقامة دولة اسرائيل ضمن حدود محددة، وسيطرة الأردن ومصر على الأراضي المتبقية من فلسطين. وبالرغم من أن العلاقة بين اسرائيل وبريطانيا كانت مهدّدة بفعل تفجير فندق الملك داوود في القدس، إلّا أن هذه العلاقة سرعان ما تطوّرت لتصبح علاقة عسكرية قوية، وكذلك فعلت فرنسا. وبالرغم من حروب اسرائيل العدوانية، إلّا أن علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع غرب أوروبا لم تتغير. أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، ومع أنّها أظهرت بعض الشكوك حول إقامة اسرائيل، إلّا أنها تحوّلت فيما بعد إلى أكبر داعم ومزود حربي لها. نجحت اسرائيل، وبالرغم من أن عدد سكّانها لم يتجاوز الخمسة ملايين (من اليهود) حتى اليوم، في أن تطور التكنولوجيا والأسلحة النووية، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا مساعدة القوى النووية، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. كما وإنّ استمرار مضايقة المحكمة العليا الإسرائيلية للخبير النووي مرداخي فعنونو، الذي كشف أسرار إسرائيل النووية بعد سجنه لمدة 18 سنة، يدل على درجة من جنون العَظَمة في إسرائيل ورغبتها الدائمة في الانتقام.

هناك عاملان مهمّان سيطرا على الحوار السياسي في المنطقة منذ الثمانينات. الأوّل، بالرغم من التقارب بين مصر اسرائيل في عام 1979 وانسحاب اسرائيل من سيناء، إلّا أنّ سياسة اسرائيل في الامتناع عن إعلان حدودها الحالية أو المستقبلية كان سبباً للاستمرار بسياستها التوسعية، وهي سياسة تبنّتها العديد من الأحزاب في اسرائيل إيماناً منهم بفكرة اسرائيل الكبرى. وبالتّالي كلّ هذه المستوطنات ما هي إلّا تمهيد لعملية الاستيلاء الكامل على الضفة الغربية. ومن الواضح أيضاً أنه بالرغم من العزل السياسي من قِبَل أغلبية الجمعية العامة للأمم المتّحدة، فإن اسرائيل اتّبعت سياسة خارجية نشطة للغاية تتضمن علاقات سياسية واقتصادية مع جنوب السودان، ومؤخراً حاولت بناء علاقة مع المنطقة الكردية الغنية بالنفط شمال العراق. وبالرّغم من كلّ الإدانات التي تُوجه لها على أعمالها العدائية في غزة، إلّا أنّ قوة العناصر المتطرّفة فيها تزداد بشكل مستمر. من ناحية أخرى، تشكّل في الطرف الآخر من المعادلة ممثل للفلسطينيين، نشط وبرز بعد حرب عام 1967، تمثل ذلك في صعود منظّمة التحرير الفلسطينية، واعتراف الكثيرين بها حول العالم، إضافة إلى التصويت الهام الذي أُجري في الجمعية العامّة للأمم المتّحدة لنَيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

استندت اسرائيل بما قامت به من جرائم وأفعال غير مشروعة في غزة في عامي 2009 و2012 خلال عمليتي الرصاص المصبوب وعامود السحاب إلى الحط من قيمة حكومة حماس في غزة، وأنّ ذلك سيعطيها الفرصة لتفلت بفعلتها، ولعبت على إستراتيجية توني بلير وغيره لتقسيم الشّعب الفلسطيني. وفي هذه المرة، بعدما وقفت غزة على ساقيها وأعادت بناء نفسها، واجهت العدوان والتفجيرات مباشرة بعد تشكيل حكومة موحّدة لفلسطين مكوّنة من حماس وفتح والمبادرة الفلسطينية بقيادة الدكتور مصطفى البرغوثي. بيد أنّ ردود الفعل حول العالم هذه المرة على سقوط 2000 شهيد و10,000 جريح، ونصف مليون مشرّد، ومليون ممّن يصعب حصولهم على مياه نظيفة كانت مختلفة، فإسرائيل اليوم معزولة كما لم تكن معزولة من قبل.

لم يتخطَ مصطلح "وقف إطلاق النار" حدود الكلمة نفسها، وبينما يحافظ استمرار وقف إطلاق النار على أرواح الكثيرين، إلّا أنّه يصعب تنفيذه ضمن بقعة جغرافية مغلقة مثل غزة، بل يجب أن يترافق مع تغيير جذري يبدأ بإنهاء الحصار عن غزة، ويتبع بوقف سياسة الاستيطان، وإزالة المستوطنات، كما كان الحال في غزة عام 2006. عندما يتم مناقشة القضية الفلسطينية فإنّ ذلك يتم عادةً بمعزل عن طرح قضية اللاجئين الفلسطينيين في الشتات الموجودين في مخيمات لبنان وسوريا والأردن وغيرها. لذلك، لا بدّ من إدراجهم في النقاش السياسي الفلسطيني ولا بدّ لأصواتهم أن تُسمع.

أمّا نحن الذين نعيش في دول أوروبا الغربية، فلدينا الجرأة والشجاعة التي نستمدّها من حجم الاحتجاجات التي تدور حول العالم، بما فيها المظاهرة الكبيرة التي ضمت حوالي 10,000 مواطن في تل أبيب ضد العدوان على غزة، لرفع الصوت واثارة التساؤلات المتزايدة حول الدور العسكري والاقتصادي الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ما تقدّمه الولايات المتحدة الأمريكية من دعم غير محدود على الصعيد المادي والدبلوماسي. وهذا دور هام في سياق دعم الحقوق الفلسطينية.

يتم تصنيع المكوّنات الرئيسة للطائرات بدون طيار في بريطانيا، ونحن نقوم باستيراد الأسلحة الثقيلة من اسرائيل. نحن اليوم، نطالب بوضع حدّ لهذه التجارة الوحشية ودعم حقوق الإنسان والعدالة للشعب الفلسطيني. واليوم في الوقت الذي فيه تتم إدانة عمليات القتل في أوكرانيا وسوريا وعمليات الذبح في العراق في جميع أنحاء العالم، فانه من العدالة والواجب أن يكون هناك إدانة مساوية لقتل أكثر من ألفي فلسطيني في غزة ولأعمال اسرائيل الحربية غير المتكافئة في حربها على قطاع غزة.

-------------------

*جيرمي كوربن: عضو في البرلمان البريطاني، عن حزب العمال.