"غزة...قاموس أبجدية مختلف"

بقلم: وسام محفوظ*

يُحكى أن فتاة تدعى غزة، سكنت أرض عِزة، فأتاها عدو على حين غرة، فكان أن صمدت وقاومت، فجاءها بعد حين وعد من الناصر الكريم إنكم لمنتصرون... وإذ بها... تحقق نبوءة ومعجزة.

لا يمكن أن يكون حديثٌ عن غزة بغير طريقة، ذلك أن غزة... الحكاية، غزة الأسطورة، غزة... ملحمة صمود حقيقية لا خيالية.

 أجل، يحدث أن في أقدس بقعة من الأرض يوجد أناس خَلقوا أساطير كثيرة عصيّة على الفهم والاستيعاب؛ ولكنها حقيقة. كثيرة هي الأساطير؛ ولكن هي ليست أسطورة الفينيق مثلاً... ذلك أن غزة لم ولن تندثر يوماً لتنفض عنها كل شيء وتخرج... غزة كانت، ولا زالت، وستظل.  فهي تأبى الركوع... هي أسطورة الفلسطيني في كل زمان حل وسيحل به.


تفوح رائحة الموت في غزة؛ ولكنه ليس كأي موت ولا كأي رائحة... هي الأثر الذي لا يزول؛ بل يفرض ديمومة عصية عالقة كتعلق الذكرى في النفس... وأيما ذكرى!

كل شيء أصبح "كان"... لتدخل لعبة الأرض فارضة نفسها على أرض غزة. ما كان فوق الأرض أصبح تحتها، لكن من أصبح تحت الأرض، سيكون فوقها قريباً... هي معادلة الحياة في غزة.

على أرضها كان هناك طرف يتقن لعبة الأرض. اقتحم عليه دخيل لعبته معتزاً بجبروته، سلاحه، "أناه"... لكن... وفي غزة توجد "أنا"! وفي معركة "الأنا"... وقف الدخيل عاجزاً عن مجاراته؛ فلعبته فوق الأرض لا تحتها... وإذا بالطرفين تحت الأرض... وإذ بأيام قليلة تكشف لغزاً وتظهر فرْقاً، وحقيقة: أن الفرق عميق عميق بين من هو تحت الأرض جبناً ومذلة، وبين منهو تحت الأرض، وفوقها مقاومة وكرامة وصموداً... فحيث الحياة تصير حقاً لا مجازاً فقط، تكون غزة... وبذا، فمعادلة الأرض لديها تقول: أن البقاء لا يستلزم أن تبدأ فوق الأرض وتنتهي تحتها؛ بل لك أن تبدأ تحتها؛ لتبدأ أيضا فوقها، وفوق سماها... ولا يبقى حينها ما يقال لهم سوى:

"يا أهل غزة ما عليكم بعدها

والله لولاكم لما بقيت سماء ما تظل العالمين"[1]

كنت أحسب أنني أعرف معنى الصمود... ولكني أدرك الآن يقيناً أني ما عرفته قبلاً كما يجب، لكأنما أصبحنا بحاجة لقاموس خاص لفهم غزة... ذلك أنها تغير المفاهيم والمعاني أجمع، فتخلق حاجة داخلك تدفعك لإعادة تعريف الأشياء من حولك، والتي لطالما حسبت معرفتك بها. تعيد غزة إذن تعريف الأشياء والمصطلحات كيفما تشاء... بأفواه رجالها ونسائها وأطفالها...

تقول ناجية من خزاعة: "يا رب تكتب الشهادة إلنا كلنا... الشباب الحلوين كلهم راحوا... ولاد مساجد... ولاد قرآن... مرابطين..." هو التعريف الآخر للجمال.

وتقول أخرى: "خرجنا حاملين الرايات البيض والقرآن الكريم" ... هو التعريف الآخر للحماية.

يقول أحدهم: "أنا شهيد وأخ شهيد وعم شهيد وخال شهيد وجد شهيد"... هو تعريف القرابة وصلة الأرحام

وتحت الركام... يتم انتشال جثة طفل بعد أن غطتها كتلة إسمنتية ضخمة، ليتضح أن الطفل كان يحمل على ظهره حقيبته المدرسية... هو التعريف الآخر للحلم.

ثم يكون زفاف في أحد مدارس النزوح... تنطلق الزغاريد والاحتفالات المخضبة بما لا يخفى على أحد... رغم غياب المألوف عن المشهد... لكنه "أصبح"... هو التعريف الآخر للحياة والبقاء .

أما الجدة الوحيدة الناجية من عائلة البطش فتبوح بعد أن فقدت 18 شخصاً من أفراد عائلتها: "الصبر... الله أسقاني كأس الصبر عليهم... ماذا أفعل؟ قلنا: الحمد لله... شهداء... من يكره الشهيد؟! "فتختصر معنى الصبر والصمود الإلهي... فمن أين لكم هذا؟

ثم يكون العيد... عيد الشهداء والتضحيات... العيد مَرّ على غزة رغماً عن أنوف الجميع... فالعيد عادل... وغنّى الأطفال الذين فقدوا ذويهم... يقول أحد الأطفال مبتسماً ملء ألمه: "العيد عنا حلو أما اليهود بدمروه وإحنا بدنا نقاوم حتى ننتصر على اليهود وغزة حلوة... أما لما فش حرب كل الدنيا بتنبسط"... هو التعريف الآخر للفرح.

ولغزة... القدرة على تلقين دروس كما لا يفعل غيرها، فلدى غزة، العصية على كل شيء... بأطفالها ونسائها ورجالها وشبابها وشيوخها وترابها... الكثير لتعلمكم إياه... فهل من مستفيد؟

علمتنا غزة معنى المقاومة والصمود، والعدو يعلم أكثر من غيره عن صمود أهلها ومناعتها، وكيف هم أطفالها. ألم يخبرنا عنهم ابنها هارون هاشم رشيد حين قال:

من غزة الآن قبل الآن قد وثبوا... أما سمعتم بهم أيها العرب

أطفال في عمر الأزهار ما عرفوا... لهو الصغار ولا أغراهم اللعب
من الخيام التي في الريح نازفة جراحها... طلع الأطفال وانتصبوا
يواجهون رصاص الغاصبين فما... لديهم من سلاح غير ما احتسبوا
فأطفال غزة يدري المعتدي أبداً... ماذا لديهم وما في الصدر يصطخب
يقاتلون فما كلت سواعدهم... يوماً ولا دب فيها اليأس والتعب

 

هؤلاء إذن هم أطفال غزة، وكيف لن يكون هناك كلل او تعب، فالعدو قائم منذ زمن، وما انفك يحاول محو غزة ليضمن الديمومة؛ لكن غزة تعلمه دائماً... بأنا لك هذا...

 تعلمنا غزة التعايش، أن صواريخ العدو توحدنا روحياً ودينياً، فيدفعنا الشر وظلمه إلى الخير، فتعرف معنى أن يلجأ مسلمو غزة إلى كنائسها للحصول على الأمن والأمان، وليكونوا قادرين على الصلاة في بيوت أخرى لله... وبيوت الله كثيرة في غزة.

غزة في حُلكة وضعها تعلمنا دروساً في المؤاخاة والمقاومة والصمود؛ لتقول للعالم أجمع: اذهبوا أنتم وطائفيتكم إلى الجحيم، فغزة توحدنا... فما جمعه الله والخيمة والوطن، لا يفرقه أحد.

غزة قادرة على تعليم الجميع ما لم يتعلموه ويعرفوه قط... ولا يزال لديها الكثير الكثير... فستعلم أحمد قعبور-بعدما عجز عن ذلك- كيف سيغني للأولاد... فكيف له ألا يستطيع بعدما رآى صمود أهل غزة. سيغني ملء فمه "لأولاد..بعمرن ماعاشواأولاد...وبقيوا بـهالدنياأولاد...

لا أفهم كيف كتب ابن دمشق قصيدته في العام 1988 لأطفال غزة قائلاً ملء فمه: "يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا"، أحسبك ستعجز أبا توفيق اليوم عن البوح إذا ما أردت مخاطبة أطفال غزة. فإن كانت السنوات الماضية من جعلك تنحني لأطفالها حينها، فما عساك فاعل اليوم؟ فأطفال غزة كبروا وصاروا رجالاً وقاوموا وصبروا وصمدوا... فعن أي درس عسانا نتحدث... فنتعلم؟

نعم، مرت السنين قاسية مجحفة على غزة... وأهلها، وتعاقب العدوان عليها، بوتيرة تصاعدية وبقيت غزة؛ فالبعض لم يشهد سوى العدوان الأول، فسلم الراية... ومن نجا من العدوان الأول، لم ينج من الثاني، ومن نجا من الثاني، ورث علامة شرف على جسده، ومن نجا من الثالث "بأعجوبة" بعد أن عايش مرحلة ستبقى عالقة في ذاكرة كل غزّيٍّ وفي الذاكرة الفلسطينية، سيكون بانتظار ما قد يأتي... وفي خِضَم جدلية الحياة والموت، وما تخللهما من صبر وصمود... تفتقت جروح أكثر مما يحتمل، ونزفت دماء أكثر مما يجب، وتناثرت أشلاء أينما كان وحيثما وجدت، وتولدت ذكريات من رحم ذكريات... وذلك الجسد، أثقله هم "ستينيّ"، وانتظار طال أمداً طويلاً... وبعد؟!

يقول غزيّ صامد: "إلى متى سنبقى ضحايا جيدين؟!" هو السؤال المشروع بكل أعراف الأرض، وغزة تنتظر الإجابة. غزة ما انفكت صابرة صامدة، ولكن اخشوا ردة فعلها عليكم. فأبناء غزة أثقلهم الكثير الكثير، فإلى متى سيخزن الجسد جروحه داخله؟ اعلموا أنه قد تبدلت أجيالٌ في غزة، ولكن الجميع عايش أحداثاً مماثلة، ومر على جسد الجميع العدو ذاته... ما تغير... وغزة صامدة. حوصرت غزة؛ فقَلَّ هواؤها وبحرها وترابها وما فوق أرضها وما تحته... وبقيت... واعلموا ان للبحر هدوء آثم، وان الموج قد يتولد في أيما لحظة ليلقي أوزاره في وجه كل من يقترب منه.

 أما سألتم أنفسكم يوماً لتعرفوا كيف ستجيبون هذا الصامد الصابر منذ سنين على كل ما لاقاه. أهل غزة تجرعوا الجراح المصاحبة للصمود وللمقاومة، وحري بكم أن تقرأوا تاريخ أهلها، لتعرفوا لماذا يقدمون أرواحهم فداءً للمقاومة، ولماذا لا تستغرب حين تسمع سيدة تقول: "ان بعض أولادي استشهدوا والبعض الآخر سأهديهم للمقاومة...". ويقول آخر: "لقد تم قصف بيت عائلتنا وتفتت الحجارة ولم تتفتتعزيمتنا، تَهدّم بيتنا ولم تُهدم كرامتنا، واستشهدت إحدى قريباتي وابنتها التي لمتتجاوز العام ولم نرفع الراية البيضاء، وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، واللهغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...". عليكم ذلك، لتعرفوا كيف تتقون غضب أهل غزة... وهو قريب.

غزة تود أن تقول للعالم أجمع أن من يحاول القضاء على عزيمة شعب "صامد" فقد فشل، شعب قضى سنيًّ عمره وهو يلملم جراح لا ترتق، وآلام لا تُستوعب، وذكريات أنّى لها أن تُنسى... وتكون غزة. وبرغم الأشلاء، تبقى وحدها و"لوحدها" القادرة على تجميع كل شيء. غزة ليست جريحة كما تحسبون؛ بل هي ضمائركم ربما تنزّ عليكم. لا ترى في غزة الدماء والمذابح، بل صمود لا يقوى عليه أحد، وتكبيرات تعلو الأفواه... فاحذروا غزة، واعلموا أن الصمود لا يكون إلا غزياً!

أمام أحد المخابز، وقف الحاج إبراهيم عباس، مؤكداً أنه يمارس حياته بشكل طبيعي... يأتي للسوق لتلبية احتياجات منزله، ويؤكد بأن طائرات الاحتلال لن تقتل إرادة الحياة.

ويؤكد الحاج إبراهيم أن "غزة شعب الجبارين... يتعاملون مع كل الأحداث دون خوف"، مضيفاً: "إن متنا نموت شهداء، وإن عشنا فنكون منتصرين عليهم بإرادة رب العالمين". لقد علمته الحياة أن هناك من يموتون واقفين.

من أين لك يا غزة هذا من أين؟ لا أجدُ بُدّاً إلا أن أقول أن هناك حتماً من همس بأذن الغزيين: "إنكم لمنتصرون"، فكان الإيمان الحق والمطلق، بأن ناصرهم واحد وخاتمتهم مكتوبة منذ الخلق، فلا مبدل لكلماته.

لكنّما يبدو جلياً، وبرغم كل شيء، أن في غزة لا تتوقف الحياة. فهناك متسع ووقت لكل شيء... لا شيء قادر على إيقافها.

تقام صلاة العيد على أنقاض المساجد... فتكبيرات تأتي من أفواه المصلين، وسجدات تُسجد على الغبار والركام، ودعوات تخرج من قلوب المطمئنين... وتكون صلاة. من قال أن هدم المساجد يوقف الصلوات ويرجئ العبادات؟  فلا شيء مؤجل في غزة؛ وتماماً، كما قَصْف مسجد وليد غزة وإمامها الشافعي، لا يُنسي ذكر سيرته ولا يلغي تفاسيره، وهو المشتاق إليها أبداً.

"وإني لمشتاق إلى أرض غــــــزة‏... وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها‏... كحلت به من شدة الشوق أجفاني"

وتقول إحدى الناجيات: "قتلوا أطفالنا بالمئات، وخلال الحرب أنجبنا أكثر من 5000 طفل"... كيف بربكم لغزة أن تموت؟

ستبقى غزة إذن لعنة الإحتلال... مهما حاولوا قصفها والمرور عليها مراراً... وحدها من استطاعت أن تُدخل عدوها في محنة الخوف والجبن، لتجعل حوار القتلة لأنفسهم تعلوها نبرة اللا منطق:

"ويقنع نفسه، ماتوا، بكل طريقة ماتوا،

ويسأل نفسه، لكن ألم أقتلهمو من قبل،

من ستين عاماً، نفس هذا القتل..."[2]

ولكن... سيبقى الحال يشهد والتاريخ يذكر... أن في غزة لن تلقى "إلا قاتلاً قلقاً، وقتلى هادئين".[3]

أصِمّوا آذانكم، وأديروا وجوهكم... فأهل غزة لا يريدون شيئاً، فقد أدركوا قديماً وفهموا تماماً قوله عز وجل {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.[4]كما أنهم يعلمون، أن التاريخ سيذكر يوماً أنكم تخاذلتم عن نصرة غزة؛ ولكنه سيؤكد أيضاً أن غزة انتصرت برغم كل شيء وحدها. مهما حاولتم، لن تستطيعوا الهروب من معجزات غزة، فتعَلّموا من معجزات غزة ولكم أن تعلموا ماذا يعني إنقاذ جنين حي من رحم أمه بعد استشهادها، وولادة 4500 طفل آخرين خلال العدوان... فما بالكم بما بعده؟  فغزة قادرة على إنجاب كل شيء.

 

ببساطة... تستطيع غزة أن تخبر قتلتها بأنها نابضة أبداً بالحياة... لكن رسالتها الحَقّة تقول:

"... ولتعني، أن أقول لقاتلي الغضبان مني

إنني قد مت حقاً، لا مجازاً، غير أني

لم يزل لي منبر فوق الأكف وخطبة لا تنتهي

يا دولة قامت على أجسادنا لا تطمئني

واعلمي ما تفعلين

ولتقرئي يوم القيامة واضحاً في أوجه المستشهدين

:

أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً

إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتين"[5]

وتتوحد الأصوات في غزة... أطفالاً وشباباً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، وتصرخ ملء عِزة وصمود:

"قسماً بشيبي لن يطول بقاؤكم

فالظل يأنف أن تمروا تحته

والأرض تأنف أن تمروا فوقها

والله سماكم قديماً في بلادي "عابرين""[6]

 

-------------------------------------------------------------

*وسام محفوظ: طالبة دراسات عليا في جامعة بيرزيت – دراسات دولية- تركيز لاجئين وهجرة قسرية.

-------------------

[1]تميم البرغوثي، من قصيدة " نفسي الفداء لكل منتصر حزين"

[2]تميم البرغوثي، نفسي الفداء لكل منتصر حزين

[3]المرجع نفسه

[4]القرآن الكريم، سورة آل عمران، الجزء الرابع، الآية 150 (المدينة المنورة: مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1413ه)، 69

[5]تميم البرغوثي، نفسي الفداء لكل منتصر حزين

[6]المرجع نفسه