ملاحظات على هامش النكبة الفلسطينية: من وعي النكبة في ذاتها نحو وعيها لذاتها

بقلم: نصار إبراهيم*

يحيي الفلسطينيون كل عام ذكرى النكبة التي حلت بهم عام 1948 عبر نضالات وفعاليات وندوات وإصدارات وأبحاث... كل هذا جيد وهام، ولكن في غمرة هذا التفاعل تتمظهر بعض الأبعاد والتجليات والانعاكاسات التي تفرض وتستوجب التوقف والتأمل، وذلك بهدف أن نتخطى مستوى وعي النكبة في ذاتها (مما يعكس وعيا نكوصيا) نحو وعيها لذاتها (الأمر الذي يعكس دينامية إيجابية تجاه الواقع والمستقبل).

يبدو أن الفلسطينيين ولأسباب عديدة قد حولوا حدث النكبة وكأنه حدث خاص بالجماعة الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني، مما أفقد النكبة الفلسطينية أحد أهم أبعادها، أي بعدها العربي بما هي أيضا نكبة عربية بامتياز، لا نقول ذلك لأسباب وجدانية أو عاطفية على أهميتها، بل لأن المشروع الصهيوني وما ارتبط به وترتب عليه من نكبات هو مشروع موجه إستراتيجيا ضد الوطن والأمة العربية بهدف تأسيس واقع ووقائع تمنع نهوض ووحدة هذا الوطن وهذه الأمة، كما تشرع نهب ثرواته والهيمنة عليه، ذلك لأن احتلال فلسطين لم يكن سوى جسر الإنزال للمشروع الإستعماري – الصهيوني في قلب الوطن العربي.ولهذا على الفلسطينيين وهم يحيون ذكرى النكبة التي حلت بهم ولا تزال، إعادة بناء مفهوم النكبة ليشمل بعدها وتجلياتها العربية، وبهذا المعنى نعيد وعي مفهوم القرار الوطني الفلسطيني المستقل، الذي بات يتعامل معه الكثير من العرب وبعض الفلسطينيين وكأنه "تحرير" للعرب من مسؤوليتهم التاريخية، القومية والسياسية والأخلاقية والثقافية تجاه قضية فلسطين، مع أن وظيفة ودور هذا المفهوم هي بالأساس وظيفة نضالية موجهة للصدام مع أهداف وترجمات المشروع الصهيوني ومحاولات شطب الشخصية الوطنية الفلسطينية وتهميشها. كما يستهدف في أحد أبعاده الأخرى مواجهة ضغوط وتدخلات الرجعية العربية في محاولاتها لإجبار الفلسطينيين على الإنضواء والرضوخ للمشاريع والمساومات السياسية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية كقضية قومية. هذا معناه بالضبط أن على الفلسطينيين بكل أطيافهم وقواهم السياسية والمجتمعية أن يميزوا تماما ما بين الأنظمة العربية وممارساتها السياسية وما يسندها من ثقافة إنهزامية، التي هي أصلا من صلب المشروع الاستعماري، وبين الشعوب والمجتمعات والقوى العربية التي تشكل موضوعيا وتاريخيا وحضاريا البيئة الحاضنة للشعب والنضال الفلسطيني.

لقد شكلت ذاكرة النكبة الفلسطينية قوة دافعة للمقاومة، وذلك بالتقاطع مع دورها في تظهير تفاصيل أحداث ورواية النكبة وما قامت به الحركة الصهيونية من تدمير وقتل وتشريد بحق الشعب الفلسطيني، وما تقوم به حتى اليوم من محاولات احتلال للوعي وذاكرة المكان. غير أن كل هذا، على أهميته، لا يجوز أن يقفز أو يتجاهل العوامل والأسباب الداخلية والذاتية التي أسست وساهمت في حصول النكبة، وأقصد بذلك دور الأنظمة العربية وتخاذلها وضعف وهشاشة البنى الفلسطينية السياسية آنذاك، بمعنى أن  التركيز على الدور الصهيوني كقوة مسؤولة ومنفذة للنكبة أمر في غاية الأهمية، إلا أن هذا التركيز  يجب أن لا يؤدي إلى تغييب أو إلغاء عملية رديفة لا تقل أهمية وهي مواصلة البحث وممارسة النقد الذاتي الجرئ وعلى كل المستويات. هذا النقد مطلوب ليس فقط من أجل التوثيق وسرد الحقيقة الموضوعية المتعلقة بأحداث النكبة وتفاصيلها الإنسانية، بل ارتباطا بهدف عملي راهن وملح، يتعلق بكشف الأسباب والعوامل التي قادت إلى النكبة على المستوى الذاتي العربي والفلسطيني، ذلك أن الكثير من تلك الأسباب لا تزال حاضرة وتفعل فعلها حتى اليوم في استمرار النكبات الفلسطينية المتواصلة سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا، سلوكيا، ونفسيا.

كما أن على الفلسطينيين وقواهم السياسية والاجتماعية والثقافية وفي غمرة فعالياتهم لإحياء ذكرى النكبة الحذر عند تناول قضايا وأحداث النكبة بحيث لا تتحول في الوعي والممارسة إلى صناعة، وذلك من خلال التأكيد على الأبعاد السياسية والإنسانية والأخلاقية  للنكبة باعتبارها أساس عملية الصمود والتماسك والمقاومة، وبالتالي منع تحويل هذه العملية إلى مجرد سلوك أو ثقافة انتقامية ضد اليهود. فالفلسطينيون لا يمارسون حقهم في المقاومة بهدف قتل أحد، بل من أجل أهداف هي في جوهرها تعكس مدى إنسانيتهم وتتمثل بنضالهم لاستعادة حقوقهم الوطنية-القومية، وذلك من خلال إنهاء علاقات القوة التي تحكم المعادلة بين مجتمع وبنى الاحتلال الصهيوني والشعب الفلسطيني. وعلى هذا الأساس يكون النضال الفلسطيني في جوهره وتجلياته التجسيد الأكثر إنسانية وأخلاقية، وبهذا المعنى فهو يجسد النقيض للممارسة الصهيونية الفاقدة لأساسها الإنساني والأخلاقي، وخاصة عند استخدامها مآسي اليهود لتبرير مشاريعها الاستعمارية وتحالفها مع القوى الكولونيالية الأكثر وحشية في التاريخ.أقول ذلك لأن أحد ركائز الالتباس في الموقف العربي والفلسطيني من الهولوكوست اليهودي، ليس لأنهم لا يدركون وحشية هذا الحدث، بقدر ما هو رد فعل على التوظيف الذي تقوم به الحركة الصهيونية عندما حولت هذه المأساة الإنسانية التي طالت اليهود وملايين البشر في الحقبة النازية إلى صناعة إعلامية وأداة لتبرير سياسات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وبهذا المعنى تجري عملية استدرار العطف بطريقة مهينة من خلال استعمال عذابات الناس، لتبرير قتل ومهاجمة واحتلال شعب آخر.

مسألة أخرى، تستدعي التأمل ونحن نحيي ذكرى النكبة، وهي أن النكبة الفلسطينية ليست مجرد استذكار لأحداث عابرة جرت في الماضي، ذلك لأنها في الواقع والوعي لا تزال نكبة مستمرة في آثارها وتأثيراتها العميقة حتى اللحظة، وستبقى مؤثرة في الوعي الجمعي للأجيال الفلسطينية القادمة. وعليه، فإن وعي النكبة وثقافتها ليست عملية مقصورة على جموع اللاجئين الفلسطينيين تحديدا، بل اصبحت مكونا بنيويا في وعي عموم الشعب الفلسطيني، إذ يستحيل موضوعيا وعلميا أن تُقتلع وُتشرد أغلبية شعب ما من سياقاتها المكانية والاجتماعية وتُدمر بناها الطبيعية ومع ذلك تبقى بقية هذا الشعب طبيعية. ولهذا يشكل وعي النكبة خافية عميقة في وعي المجتمع الفلسطيني، التأكيد على هذا البعد ليس الدافع من ورائه مجرد التعبير عن التساند الاجتماعي، بل الاستناد لهذا الوعي لتعزيز الديناميات الداخلية الإيجابية عند عموم الشعب الفلسطيني، بمعنى الاستناد لهذا الوعي لتعزيز وحدته ونسيجه وقيمه الاجتماعية، كقاعدة لتفعيل طاقاته في سياق مقاومته الوطنية لإنهاء الاحتلال على جميع المستويات.

ولأن النكبة لا تزال عملية راهنة بالمعنى المباشر والضمني والتاريخي، فإن وعي هذه النكبة ليس مجرد عملية بكائية أو رثائية، بل عملية اجتماعية ثقافية سياسية شاملة هدفها حماية روح المجتمع وتفعيل قواه العميقة ودفعها للمبادرة، أي الارتقاء بوعي تجربة النكبة من مستوى وعي النكبة في ذاتها، على أهمية ذلك، إلى وعي النكبة لذاتها،بمعنى وعي وإدراك كل ما هو نقيض لها، أي بما يحول ويمنع أية نكبات قادمة. وبهذا يصبح الوعي العميق لأحداث الماضي - الراهن في الحالة الفلسطينية وسيلة للنضوج والإبداع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يساهم في تحديد وبلورة النقيض الإيجابي للواقع الفلسطيني الصعب، حيث تتحول خافية النكبة في الوعي الجمعي الفلسطيني إلى قوة بناء إيجابية تعيد تأسيس قيم ومعايير المجتمع الفلسطيني الموجهة نحو المستقبل. هكذا يتحرك مفهوم وحق العودة، مثلا، من مستوى العودة لما كان (وهو أمر غير ممكن بالمعنى العلمي) ليرتقي إلى عملية هدفها ووظيفتها التأسيس لما سيكون بكل ما يشترطه ذلك من معايير سياسية وأخلاقية وإنسانية تشكل بمجموعها تعويضا نسبيا للفلسطينيين عما لحق بهم في الماضي من جانب، كما تشكل نقيضا لمعاناتهم الراهنة من جانب آخر، في سياق هذه العملية المتداخلة والمتحركة تصبح فلسطين وحق العودة ودروس النكبة نقيضا لكل ما هو مهين وسلبي ومؤلم في تجربة الجماعة الفلسطينية على كل المستويات، كما تصبح محددا لأحلام وطموحات الفلسطينيين وأجيالهم القادمة.

-------------

*نصار ابراهيم: مدير مركز المعلومات البديلة، والمنسق العام لمبادرة الدفاع عن الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان (OPGAI).