المشاركــة الشعبيــة في صنــع الســـلام


بالنسبة لاتفاقات السلام، وهي النتيجة الطبيعية لعملية تفاوض بين النخبة السياسية مدعومة بموقف عالمي يستهدف تسهيل الوصول إلى الاتفاقيات وتطبيقها. وفي الواقع، فان القطاعات الشعبية والمجتمعية، هي التي تمثل العامل الأساسي للتطبيق الفعلي والفعال للاتفاقيات. ومن البديهي القول أن دور اتفاقيات السلام لا يقتصر فقط على وضع نهاية للصراع او النزاع، بل يتعداه إلى تحديد المبادئ والمنطلقات الأساسية التي تحكم العلاقات الداخلية في الدولة بين الحكومة والمواطنين (وبضمنها حماية حقوق الإنسان)، وعملية إصدار التشريعات المناسبة إضافة إلى تحديد الهيئات التنفيذية ومدى فعالية واستقلالية السلطة القضائية ونزاهة الحكم الى جانب توزيع الثروات بين المواطنين. بناء على ما تقدم، تتجلى أهمية المشاركة الشعبية حيث أن إشراك الفعاليات الشعبية في عملية التسوية أو صنع السلام منذ البداية، يوفر لهذه القطاعات الفرصة للتعبير عن رأيها فيما يخص عملية انهاء الصراع الى جانب المشاركة في تحديد طبيعة وشكل السلام الدائم المنشود. في الوقت ذاته، فان المشاركة الشعبية تساهم الى حد كبير في تدعيم المبادئ والتركيبة الديمقراطية بالإضافة الى شمل المسائل الأكثر تعقيدا ضمن الحل وإضفاء الشرعية على الاتفاقيات. عدا عن ذلك، فانها توسع قاعدة الالتفاف الشعبي حول الاتفاقيات مما يشكل احد اهم الدعامات التي تؤدي الى تثبيت الاتفاقية على المدى البعيد. إن وجود قاعدة شعبية داعمة، يوفر البيئة المناسبة التي تمكن اطراف الصراع من وضع الحلول لجذور الصراع وتسويته وليس فقط التعايش معه أو إدارته.

منذ انطلاقتها الأولى، وفرت عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية، بعض الفرص المحدودة جدا للمشاركة الشعبية سواء على مستوى التمثيل في المفاوضات او لعب الأدوار الاستشارية او المشاركة المباشرة. وقد أدى استثناء قضية اللاجئين في عملية صنع السلام التي انطلقت في العام 1991 من خلال مؤتمر مدريد وتواصلت من خلال اتفاق اوسلو، ادى هذا الاستثناء الى بروز العديد من المبادرات الذاتية بين مجتمعات اللاجئين في الضفة الغربية، قطاع غزة، القدس الشرقية، المهجرين داخل اسرائيل واللاجئين في الشتات من اجل بلورة أطر عمل تعمل على التحشيد من اجل احقاق حقوقهم القانونية والشرعية.

من جهة أخرى، فحتى المبادرات غير الرسمية الحالية كوثيقة نسيبة- ايلون ووثيقة جنيف، لم تتطرق هي الاخرى الى اهمية المشاركة الشعبية كما انها لم تعمل على الاستفادة من الدور الداعم الذي تلعبه مثل هذه المشاركة في تدعيم السلام. وفي الوقت الذي تبدو فيه مثل هذه المبادرات على انها مبادرات خاصة ناتجة من مؤسسات المجتمع المدني، الا انها في حقيقة الامر تمثل موقف النخبة السياسية. ولعل كلا المبادرتين المذكورتين تتجاهلان إمكانية الاستفادة من المشاركة الشعبية وأهمية هذه المشاركة. ولعل المحاولات التي تلت طرح هذه المبادرات من اجل تحشيد الدعم الشعبي لها، لم تصل الى حد اخراط القطاعات الشعبية في صياغتها، بل وقفت عند حد الدعوة فقط الى تأييدها.

من منظور مقارن مع اتفاقيات سلام مشابهة، هنالك العديد من المجالات التي يمكن ان تتجلى فيها المشاركة الشعبية: حيث يمكن ان يتم تمثيل القطاعات الشعبية في عملية المفاوضات من خلال الاحزاب السياسية و/او مؤسسات المجتمع المدني الاخرى. كما يمكن تشكيل الهيئات الاستشارية من القطاعات الشعبية لتزويد المفاوض بالنصائح المناسبة الى جانب منح هذه القطاعات الفرصة للتعبير عن رأيها واهتماماتها واخذها بعين الاعتبار في عملية التفاوض. كما انه من الممكن منح الافراد الفرصة للمشاركة في العملية السلمية سواء في مرحلة صياغة الاتفاقيات او تطبيق هذه الاتفاقيات على ارض الواقع من اجل وضع حد للصراع. وتشير التجارب الشبيهة الى ان المشاركة الشعبية في العملية السلمية يجب ان لا يقتصر فقط على المستوى النظري بوضع آليات لهذه المشاركة بل يجب ان تشارك القطاعات الشعبية فعليا في هذه العملية. ومع ذلك، هناك العديد من الامثلة التي يمكن الاعتماد عليها بخصوص المشاركة الشعبية في عمليات السلام في بقاع شتى من العالم.

واذا ما أخذنا مالي كمثال، فان العديد من الشخصيات المحلية الفاعلة قد قامت في اواسط التسعينات بعقد ما يزيد عن الخمسين لقاء للفعاليات الشعبية في المناطق التي كان فيها الصراع محتدما اكثر من غيرها وبالتالي لم يكن تطبيق التسوية بالامر الهين. وقد تراوح عدد المشاركين في هذه اللقاءات بين بضع مئات ليصل الى ألف مشارك في كل لقاء. أما اتفاقية إحلال الديمقراطية في جنوب افريقيا، فقد وفرت الفرصة لحوالي سبع وعشرين منظمة وهيئة بما فيها أحزاب سياسية واتحادات تجارية ومؤسسات دينية من أجل إجراء مفاوضات حول الترتيبات السياسية ووضع الدستور الجديد للجمهورية. وقد تم اعتماد مبدأ التمثيل النسبي في اختيار المشاركين في الوفود التي تفاوضت حول هذه القضايا حيث تم فيما بعد دمج كافة المشاركين في مجموعات خاصة عملت على وضع الاساسيات للتسوية السياسية. وقد ضمت كل مجموعة شخص مختص في البحث في اتفاقيات السلام الشبيهة من أجل تقديم المشورة للمفاوضين حول أفضل النماذج المطبقة في العالم.

أما في ايرلندا الشمالية، فان العديد من النشطاء غير الطائفيين وعددا من أفراد المؤسسات غير الحكومية قد شكلوا منتدى وطنيا عرف باسم مبادرة العام 1992. وقد وفر المنتدى للمواطنين والقطاعات الشعبية الفرصة من اجل طرح قضاياهم بشكل حر مباشر بعد ان كانت هذه القضايا تطرح من خلال الاعمال العسكرية للمجموعات المسلحة فقط. كما تم عقد جلسات استماع لطلبات المواطنين في جميع انحاء الجمهورية من خلال لجنة محايدة مكونة من سبعة اعضاء وبرئاسة شخصية غير ايرلندية. وقد تم ترجمة ونشر محتويات جلسات الاستماع لتشكل القاعدة التي يعتمد عليها بهدف زيادة الدعم الشعبي لاتفاقية السلام الموقعة والاطار العام الذي تم من خلاله حل الصراع في ذلك البلد.

 اما في غواتيمالا، فان اتفاقية السلام قد وفرت المجال الفسيح أمام المشاركة الشعبية في صياغة وتطبيق الاتفاقية. ففي نهاية الثمانينات، قامت لجنة المصالحة الوطنية والمكونة من ممثلي اثني عشر حزبا سياسيا مختلفا، الحكومة، الجيش، واتحاد الكنائس الكاثوليكية، قامت هذه اللجنة بتنظيم مؤتمر للحوار الوطني المفتوح. وقد شارك في هذا المؤتمر ما يزيد على الخمسين منظمة وهيئة من المهتمين بالصراع بما فيها المنظمات الطائفية، قطاعات الاعمال، النقابات، والجمعيات الخيرية والتعاونية حيث تم نقاش القضايا المفصلية المتعلقة بالصراع في ذلك البلد.  

اما في غواتيمالا، فان اللاجئين هناك قد تمكنوا من تنظيم انفسهم ضمن اطار هيئة دائمة حيث عمل ممثلو اللاجئين من خلال هذه الهيئة على التفاوض المباشر من اجل حق جميع اللاجئين بالعودة الى ديارهم وممتلكاتهم. وقد كفلت الاتفاقية للاجئين كافة حقوقهم وامنهم وحرية تشكيل التنظيمات الخاصة بهم بعد العودة الى موطنهم الاصلي واستعادة ممتلكاتهم تحت اشراف مراقبين دوليين. كما كفلت لهم ان يخضعوا للسلطات المدنية وليس للسلطات العسكرية. الى جانب ذلك، فان قطاع النساء من بين اللاجئين قد نجح في تنظيم النساء ضمن هيئات خاصة في اطار تنظيمات اللاجئين حيث عملت هذه الهيئات على تحسين اوضاع النساء اللاجئات بعد عودتهن مع عائلاتهن الى غواتيمالا. وكما اشار العديد من الباحثين والمختصين، فان اللاجئين في غواتيمالا لم ينتظروا صنع السلام، بل شاركوا منذ البداية في صياغته وتطبيقه كذلك. كما ان المشاركة الشعبية الفعالة ساهمت الى حد كبير في ارساء دعائم نظام ديمقراطي كفل للجميع حقوقهم. أما في موزامبيق وغينيا بيساو الجديدة، فان المبادرة باشراك منظمات المرأة والمؤسسات الكنسية، قد ساهم مساهمة فعالة جدا في تطبيق اتفاقية السلام هناك الى جانب المساهمة الى ارساء دعائم السلام في ذلك البلد.

وتتجنب العديد من الحكومات والهيئات فتح باب المفاوضات امام المشاركة الشعبية. الا ان الدراسات المقارنة تشير الى ان المشاركة الشعبية، سواء على مستوى الدور الاستشاري او المشاركة المباشرة، تلعب دورا بارزا في تسهيل تطبيق اتفاقيات السلام وضمان حالة من السلام الدائم والشامل.

من ناحية اخرى، فان الاتفاقيات التي لا تفسح المجال امام المشاركة الشعبية، يمكن ان تقود الى فقدان الثقة الشعبية في هذه الاتفاقيات وبالتالي تعريض شرعيتها للمسائلة الشعبية مما ينتج عنه ضعف امكانية تطبيقها وآفاق السلام المستقبلية. اما طرح الاتفاقيات للمشاورات بعد ان يتم التفاوض عليها وتوقيعها، هو عمل لا قيمة له لكون الامور تصل الى درجة لا يمكن معها اعادة صياغة جوهر هذه الاتفاقيات. كذلك فان الاتفاقيات التي توقع دون ان يكون للقطاعات الشعبية اي دور في صياغتها، قد تكون مصدر للخلافات والصراعات المستقبلية اكثر من كونها اتفاقيات تهدف الى وضع حد للخلافات والصراعات والنزاعات.