قراءة في الموقف الفلسطيني من التقاضي أمام محاكم دولة الاحتلال

بقلم: محمد نزّال*

خضوع الأراضي الفلسطينية لسيطرة قوة الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 أوجب تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني العرفية والتعاقدية - اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين الحرب البرية لسنة 1907 واتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب سنة 1949 - وألزم قوة الاحتلال الإبقاء على إعمال القوانين النافذة في تلك الأراضي ما قبل احتلالها، إلا في حالات الضرورة القصوى، وبشكل مؤقت.

الأمر العسكري رقم (2) لعام 1967، الصادر عن القائد العسكري لقوات الاحتلال الإسرائيلي جاء منسجما مع قواعد القانون الدولي الإنساني هذه، حين أبقى على نفاذ القوانين السارية في الأرض الفلسطينية المحتلة. لكن ممارسات الاحتلال الفعلية على الأرض - فرض القانون الإسرائيلي على القدس المحتلة، وتقويض جوهر بعض القوانين النافذة عبر تعديلها بالأوامر العسكرية...الخ - كانت النقيض لقواعد القانون الدولي الإنساني.

أخطر هذه الممارسات تمثلت في المناحي التي مست جوهر وجود الفلسطينيين على أرضهم، (مقدراتهم العامة، وأموالهم غير المنقولة). الأمثلة الأكثر وضوحا تمثلت في القوانين والتشريعات المتعلقة بالأراضي، قوانين التنظيم والبناء، والأوامر بشأن صلاحيات وبنى الهيئات القضائية، بما فيها اللجان شبه القضائية.

مد صلاحيات محكمة العدل العليا الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية المحتلة، تم تبريره إسرائيليا بحجة مراقبة أداء الجيش في الأرض المحتلة! لكن الموقف الفلسطيني المقابل رفض في البداية، التعاطي مع هذا الإجراء، واعتبره يمثل انتهاكا جسيما لقواعد القانون الدولي الإنساني، يستوجب المقاطعة.

 هذا الموقف المبدئي، على صدقيته ومشروعيته، وضع الفلسطينيين أمام تحديات كبيرة، في سياق مواجهتهم تفاصيل مشروع الاحتلال الاستيطاني. ففي مدينة القدس مثلاً، وبحكم ضمها غير الشرعي إلى دولة قوة الاحتلال، وإنفاذ القوانين الإسرائيلية فيها، لم يكن أمام المقدسيين للوقوف في وجه الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف نزع ملكياتهم وهدم بيوتهم، منعا أو إعاقة، سوى خيارين: التوجه للقضاء الإسرائيلي، او التمسك بالموقف المبدئي وعدم معارضة تنفيذ الإجراءات.

النقاشات الفلسطينية المبكرة لم تغيب للحظة نصوص قواعد القانون الدولي الإنساني. لكنها بالمقابل، لم تستطع التحرر من الضغط الآني والملح الذي كان يتعرض له الفلسطينيون أفرادا وجماعات، بفعل إجراءات الاحتلال والحاجة الفورية لمواجهتها. وهو ما صاغ الموقف الرسمي الفلسطيني ما قبل اوسلو - والمعبر عنه من قبل م.ت.ف وذراعها في الأرض المحتلة "رؤساء البلديات المنتخبون ولجنة التوجيه الوطني، والقيادة الوطنية الموحدة" - أو حتى الموقف المعبر عنه من قبل السلطة الفلسطينية ما بعد أوسلو، صياغة براغماتية بامتياز. كونها جاءت كمحاولة للجمع بين نقيضين ليس لهما أن يجتمعا.

 ففي الوقت الذي انطلق فيه هذا الموقف من عدم الإقرار بمشروعية الإجراءات القضائية الإسرائيلية، التي تنتهك منطق القواعد القانونية الملزمة لقوة الاحتلال- رافضا السماح لأي من المؤسسات الفلسطينية الرسمية بقبول التقاضي أمام المحاكم الإسرائيلية، فانه لم يمنع الفلسطينيين المتضررين، أفرادا وجماعات، من التوجه إلى ذات محاكم دولة الاحتلال تلك!

بل انه، وفي خطوة ابعد من ذلك، وفي فترة ما قبل قيام السلطة الفلسطينية، قام بتقديم الدعم المادي للمواطنين المتضررين عبر تغطية رسوم تلك المحاكم، وأتعاب المحامين، وبدلات تنظيم مخططات المساحة، وأثمان الصور الجوية، وأجور خبراء فحص البصمات ومضاهاة الخطوط، وتقارير المختصين المختلفة. وهو ذات الأمر الذي تقوم به مؤسسات السلطة الفلسطينية اليوم.

وما نريد التأكيد عليه هنا أن التباين بين الموقفين (الرافض لمبدأ الدخول في مصيدة القضاء الإسرائيلي، والداعي إلى استغلال الهامش الضيق المتاح)، لم يتأت من تغيير في النظر لمشروعية مد صلاحيات الجهاز القضائي الإسرائيلي على الأرض المحتلة. ولم ينتج عن اختلاف في تشخيص لمنظومة القضاء الإسرائيلية كذراع لقوة احتلال كولونيالي، ولا حتى عن اختلاف في الاجتهاد حول ما إذا كان التوجه للمحافل القضائية الدولية، الذي يستوجب استنفاذ إجراءات التقاضي المحلية، يقضي بالتوجه إلى محاكم دولة الاحتلال أم يتوقف عند حدود المحاكم العسكرية!

 الاختلاف الأساسي كان دافعه شعور غالبية الفلسطينيين بالإحباط من عدم جاهزية أو عجز المجتمع الدولي لإلزام قوة الاحتلال الإسرائيلي باحترام قواعد القوانين الدولية الملزمة. وخشية القيادة الفلسطينية من فقدان السيطرة على منحى سلوك المتضررين حين يتركون لمواجهة مصيرهم دون أن تكون لديهم بدائل عملية. ولعل هذين العنصرين هما ما كرسا الحضور الطاغي للقاعدة الفقهية المشهورة "الضرورات تبيح المحظورات" كمدخل للتعاطي مع قضاء دولة المحتل.

على أن الموقف الفلسطيني وبرغم منطلقاته البراغماتية هذه، إلا انه كان يحتكم دوما إلى جملة من الضوابط والقواعد الملزمة، رغم عدم تنصيصها. ولعله من الجدير هنا الإشارة إلى أهم الضوابط التي حكمت آليات التعاطي القانوني في القضايا/ الدعاوى ذات العلاقة والأموال الفلسطينية غير المنقولة:

·      حظر القبول بمبدأ التعويض؛ أي قبول التعويض عن/ أو في ظل/ استمرار الضرر، ولا سيما الضرر الأصل المتمثل في الاحتلال نفسه، وذلك كي لا تصبح إجراءات الاحتلال المفترض أن تكون مؤقتة إلى حالة استعمار دائم. 

·      حظر الأخذ بمبدأ التبادل، بغض النظر عن اعتبارات الربح والخسارة.

·      حظر إجراء التسويات، والتي عادة ما يوجه القضاء الأطراف لانجازها، حتى لو كان ثمن الرفض خسارة الدعوى.

·      حظر اقتراح البدائل: كأن يقترح مسار بديل عن مسار مقطع الجدار الذي تريد قوة الاحتلال إنشاءه؛ فالمسارات البديلة مرفوضة ما دامت تقع ضمن الأرض المحتلة.  

·      حظر القبول بمبدأ التحكيم.

·      حظر التنازل عن الحقوق، أو القبول بالإجراءات المؤقتة، كالتأجير أو غيرها.

·      الاستناد إلى قواعد القانون الدولي الإنساني، والقوانين الدولية الأخرى ذات العلاقة، كأساس للموقف القانوني في أية دعوى. بما يعنيه ذلك من حظر الموافقة على شرعية إجراءات قوة الاحتلال، والتأكيد على حقوق الأشخاص المحميين والأعيان المدنية.

بالنظر إلى الضوابط أعلاه، قد يبدو الأمر مخالفا للأصول القانونية المتبعة لتحقيق العدالة في الأحوال العادية. فالتعويض بشكليه العيني أو بمقابل، وسواء تم عبر تسوية متفق عليها بين الأطراف او أنجزت بقرار قضائي أو لجان التحكيم، تبدو أمورا قانونية تراعي أصول العدالة في الأحوال العادية. تبعا لذلك، قد تبدو الإشكالية في الموقف الفلسطيني الذي يرفض التعويض النقدي، أو التعويض بالمثل، أو اقتراح البدائل، والتسويات، والتحكيم. لكن ما يستلزم تلك الضوابط في الحالة الفلسطينية هو وجوب عدم شرعنة ما هو باطل. فبصرف النظر عن الغايات، هناك فرق كبير ما بين أن تقوم السلطة الشرعية في بلد ما بالاستملاك وقيام قوة الاحتلال (غير شرعية) بالمصادرة والاستملاك. وبالتالي، فانه لا مجال للنظر في عدالة التعويض، أو التسويات وغيرها ما دام الأمر في أصله صادر عن سلطة غير شرعية- قوة الاحتلال. كما أن القبول بذلك، يعني عمليا، الانخراط في شرعنة ما هو باطل في أصله. 

أخيرا، فان استمرار الموقف الفلسطيني هذا، دونما إجراء مراجعات جدية، تأخذ بالاعتبار المخرجات الكارثية لتجربة الفلسطينيين، التي امتدت على مدى عقود، مع قضاء دولة الاحتلال. وبروز متغير جوهري جديد يتمثل في الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، بما يعنيه ذلك من إمكانية الانفتاح على القضاء الدولي، إنما يعود – في رأيي – الى ثلاثة أسباب/منطلقات :

1-     استمرار وتنوع ضغط التحديات التي اشرنا إليها، وامتدادها لتشمل كافة الارض الفلسطينية المحتلة. من الأمثلة على ذلك، تأجيل او إلغاء تنفيذ قرار نهائي بالهدم، او منع تحويل ملكية أراض فلسطينية خاصة، الى "أراضي دولة"، يوجب التقدم بالتماس إلى محكمة العدل الإسرائيلية. وإفشال عملية تسريب عقار فلسطيني لصالح شركة استيطانية قامت بتزوير أوراق ملكيته، يستوجب الطعن أمام محكمة صلح إسرائيلية.

2-    وجود جهات مختلفة مستفيدة ماديا من استمرار هذا الواقع. قد يبدو الأمر غريبا بعض الشيء! ولكن هل لنا أن نتصور عدد الجهات/الأشخاص الذين سيتأثرون من قيام السلطة الفلسطينية بإصدار قرار يحظر التوجه للمحاكم الإسرائيلية في كل ما يتعلق بالأفراد والأموال المنقولة وغير المنقولة؟

3-    توفير الحرج على العديد من الجهات. ذلك أن اعتماد خيار آخر لا يخلو من مواجهات وضغوط سياسية هو أمر غير مرغوب فيه لدى الكثيرين. خيار كهذا سيضع ليس فقط الفلسطينيين في مواجهة اسرائيل وأصدقائها، ولكنه أيضا، سيضع الأوروبيين وبعض العرب أمام امتحان لا يرغبون في اجتيازه.

-------------------------------------

* محمد نزال: مسؤول ملف الجدار والاستيطان في السلطة الوطنية الفلسطينية.