القانون باعتباره تكتيكا: فلسطين والزاباتيستا، والممارسات العالمية للسلطة*

بقلم: ليندا كيكيفيتش**
رغم أن للنضال الفلسطيني خصوصياته، إلا أن المسائل التي يواجهها الفلسطينيون يوميا، على شاكلة العنف، انتزاع الملكية، والحرمان من الحقوق المدنية، لا تقتصر عليهم وحدهم، حتى في وقتنا هذا. وحتى لو كان يتم تصوير الوضع القائم في فلسطين بعبارات على شاكلة "غياب الدولة،" "الاحتلال،" أو "مواطَنة من الدرجة الثانية،" أو بأنه يتوجب على الفلسطينيين التوجه إلى جهات ومؤسسات خارجية من أجل تحصيل "حقوقهم" بما يخدم وضعهم الحالي، فإن الوضع مماثل لدى العديد من شعوب العالم ممن اجتازت دولهم مرحلة إعادة هيكلة نيو ليبرالية في العقود الأخيرة، وتكثيف لدور الدولة البوليسي وفقدانها القدرة على التدخل والتأثير للحد من الفروقات الاجتماعية.1 ذلك، أضعف قدرة الدولة على إعادة توزيع الثروات، وزاد من دورها في خصخصة الأراضي والموارد، إضافة إلى زيادة الدولة لعمليات ملاحقة/مراقبة، وعقاب مواطنيها بهدف الدفع قدما بـ "مناخ اقتصادي جيد"،2 وحيث أزمة التمثيل تترافق مع إعادة الهيكلة هذه، هذه الأمور مجتمعة دفعت بالكثيرين إلى اللجوء إلى المنظمات غير الحكومية (NGOs) والمنظمات القانونية الدولية، على أمل إعادة التوازن حيثما وجد الظلم. ففي هذا السياق، أصبح أمر استخدام الاستغاثة بالخارج من أجل تحصيل "الحقوق" شائعا، وهو ما صار يشكّل أيضا قاعدة لاحتجاجهم، حتى لو لم يتم الاعتراف بهم بشكل رسمي باعتبارهم شعبا بلا دولة. لقد ثبت بأن هذه الموضة الجديدة خطيرة، لأنه في حالة الفلسطينيين الذين تتسم علاقتهم بالساحات القضائية الدولية والإسرائيلية بالإشكالية،3 فإن الالتجاء إلى الممثلين والمؤسسات التي لم تكن يوما طيبة تجاههم يحمل خطر تعزيز ذات القوى التي تقوم باضطهادهم. وعلى ضوء هذا الواقع، فإن التساؤل حول ماهية الفوائد التي ترجى من خطاب القانون والادعاءات المبنية على الحقوق للحركات التحررية عبر العالم، قد أصبح أكثر إلحاحا.

مثل هذه التجارب المشتركة ينبغي أن تدلنا على وجود منطق مشترك للسيطرة، وهو يعمل عالميا،4 ويمكنه أن يضع الفلسطينيين في مجال مقارنة تحليلية مع عناصر أخرى للصراع على ماهية استراتيجيات التحرير التي يمكن أن تكون أكثر تأثيرا في أيامنا.5 في هذه المساحة الصغيرة عبر هذا المقال، سأقوم بتوضيح بضعة جوانب من الحالة الفلسطينية على ضوء الحوار مع تحليل "شانون سبيد" Shannon Speed و"ألفارو ريس" Alvaro Reyes حول تقرير المصير، كما يفصّل سبيد وريس في مقالهما، "الحقوق، المقاومة، والبدائل الراديكالية: المدافعون الحمر عن المجتمع والزاباتيسمو في تشياباس"6 “Rights, Resistance, and Radical Alternatives: The Red de Defensores Comunitarios and Zapatismo in Chiapas.”

إن زاباتيستا،7 وهي الحركة الوحيدة تقريبا للأصلانيين في ولاية تشياباس المكسيكية التي قامت برفع السلاح ضد الحكومة المكسيكية في 1 كانون ثاني 1994، 8 والتي استعادت وسيطرت على مساحات شاسعة من الأرض: وقامت، بالتزامن، بعقد مفاوضات سلمية لم يتم احترامها من قبل الدولة،9 واستخدمت مصطلح "حقوق الأصلانيين"، ليس لأنها تؤمن بأن مثل هذه الحقوق ستضمن الاستقلال الذاتي، ولكن كونها تشكل عوائق أمام الحكومة المكسيكية بالتدخل في مشروع زاباتيستا لـ بناء الاستقلال الذاتي. ورغم قيامي بالإشارة إلى بعض من النقاشات المفتاحية الواردة في المقال المشار إليه، أدناه، إلا أن المقال المشار إليه نفسه يستحق أن يُقرأ كاملا. إن كيفية قيام "سبيد" و"ريس" بتصوير الزاباتيستا باعتبارهم مثالا ملموسا حول كيف يمكن للـ "قانون" أن يُرفض كقوة قد تحدد وتحدّ من العناصر التي يستطيع النضال تحقيقها، وبالمقابل: كيف يمكن استخدام القانون كوسيلة تمنحهم فضاء لبناء ما يقررونه هم أنفسهم. إن الأمر ينطوي على أهمية في تحليل ومعالجة علاقة الفلسطينيين وغيرهم ممن لديهم مطالب مبنية على مبدأ اللجوء الى الدعاوى الحقوقية باستخدام الساحات القضائية في السياق المعاصر.

القانون وممارسة تداول السلطة:
من المهم في استهلالنا أن نشير إلى أن زاباتيستا يرفضون النظر إلى القانون باعتباره مسألة "سيئة" أو "جيدة" فطريا، وهم يقومون باستخدامه كبديل لعلاقة قوى يمكن لها أن تكون مؤثرة وذات علاقة. من أجل توضيح ذلك، يدعي "سبيد و"ريس" بأنه لا يمكن ترسيم جوهر القانون بصورة كافية من دون تحليل "القانون كشكل محدد وبنية لممارسة تداول السلطة."10 إن "القانون" في التفكير الغربي القضائي المعاصر، كما يشير الكاتبان، يعني شكلا محددا جدا من الممارسة والتداول: حيث تقوم السلطة المهيمنة بإقرار "حقوقنا" (باعتبارها الحاكمةمقابل الموافقة، الاعتراف، وتقديم الدعم من قبلنا (نحن المحكومين).11 هذا الفصل الجذري بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن يوضح لنا، باعتباره تمايزا حادا بين ممارسات السلطة وممارسات تقرير المصير، بدلا مما يقومون به من محاولة جسر الهوة12. إن المهيمن، كما يكتب "سبيد" و"ريس":
هو ’السلطة‘ التي تم تسويغ سيطرتها عبر التاريخ التشريعي من خلال الرواية التاريخية لماهية ’العقد‘. هذه الرواية تطرح بأن الأفراد يقومون بشكل طبيعي، بدافع الخوف من الآخرين، بتسليم "حقوقهم" اللا محدودة إلى سلطة. وتقوم هذه السلطة، عبر تجميع هذه الحقوق، بالإمساك بالسلطة المطلقة داخل المجتمع، وتناط بها، بالمقابل، مهمة الوساطة ما بين المصالح المتضاربة للأفراد بهدف خلق الوحدة الاجتماعية والسلام13.
لذا، وفي حين أن "الحقوق" تحمل معان مختلفة، إلا أنه، وحين يتم تطبيقها في المحاكم وفي الهيئات القانونية، يتم وضعها في سياق منطقي يسبغ عليها معنى من خلال ترخيص السلطة الخارجية. إن هذه الممارسات القانونية تفترض بأن "السياسة" أو ممارسة السلطة ينبغي أن تكون نافذة، عموما، من خلال اختصاصية الممارسة للمحامين، المحاكم، والمشرّعين. ولأن هذه الممارسات تدفع قدما بالخرافة القائلة بأن الناس غير قادرين بشكل جمعي على "ممارسة السياسة" من دون الإطار، والموافقة، ودعم السلطة القائمة خارج صفوفهم، فإن الإذعان إلى مثل هذه السلطة يخلق تبادلا في السلطة بطرائق تعزز ذات الأشكال المنطقية للسيطرة التي تسعى الحركات المناضلة من أجل تقرير المصير النضال ضدها.
إن الاعتراف بمثل هذه الممارسات لا يخلصنا من علاقة الهيمنة المميزة للحرب (وبدلا من ذلك، فإنها تخلدها من خلال شكل مختلف ومن خلال تغيير المسرح) وهو ما قاد "فرانز فانون" والعديد من المثقفين الثوريين الآخرين إلى التأكيد على مبدأ "إن شن الحرب والانخراط في الحياة السياسية هي أمر واحد، وهي الشيء ذاته"،14 وبدوره، فإن هذا هو بالذات ما يدفع حركات التحرر عبر العالم إلى ربط المنطق العسكري (كمثال الإستراتيجية والتكتيك) بالمعارك السياسية من أجل معرفة أين يمكنهم تصميم الطرق من استخدام القانون بذاته من دون أن يجعلونه يسيطر عليهم15.

حول الإستراتيجية وتكتيكاتها:
بهدف الإبقاء على انعدام وجود ارتباط عضوي متأصل بين تطبيق القانون وبين التوصل إلى العدالة، فإن التحليلات النقدية حول فلسطين كانت حكيمة بما فيه الكفاية لكي تنتبه إلى أن الاستعانة بالقانون ينبغي أن تكون أداة، لا هدفا16. ولكن، نظرا لنزوع النظام القضائي المعاصر إلى حصر النشاط السياسي في دائرة تعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية للسيطرة، فإنه ينبغي استعمال، والحفاظ على، تمييز أكثر وضوحا في الرؤية بين استخدام الوسائل (وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم "التكتيكات") وبين علاقتها بالهدف (الـ"استراتيجية" التي يسير التكتيك وفقها). لذا، وحتى لو كانت التكتيكات وسائل مرنة وأحادية الاستعمال من أجل التوصل إلى أهداف إستراتيجية ثابتة،17 وحتى لو كانت الالتماسات القانونية تفهم باعتبارها فقط وسائل من أجل هدف أعظم هو تقرير المصير للفلسطينيين، فإن القانون لا يمكنه أن يكون مجرّد أداة حينما تقوم سلطة قانونية مفرطة في القوة بفرض سطوتها، خصوصا في ظل غياب هدف وشكل محدد للنشاط. هذا الهدف الذي قد يدلنا على متى يمكن، و أين يمكن، وكيف يمكن، وحتى إذا ما كان ممكنا أصلا استخدام القانون. في هذه الحالة، يمكن للالتماسات القانونية أن تتوقف بسهولة عن كونها مجرد تكتيكات وأن تصبح هدفا نهائيا بحد ذاته في ظل غياب إستراتيجية تقرير المصير، بحيث تزيح "السياسة" بعيدا عن الناس، وتوجه الجزء الأكبر من نشاطها إلى نظام لديه قواعد، شروط، وميول، خارجة عن نطاقها.
إن التحدي هنا يكمن في الإيمان بأنه يمكن خلق المشروع السياسي الآن على يد الفلسطينيين وحركات التحرر الأخرى، مشروع من شأنه أن يسمح بتطور تقرير المصير بغض النظر عن الإقرار القانوني الخارجي. وفي واقع الأمر، ألا ينبغي أن يكون الأمر على هذه الحال؟ إن تقرير المصير، وفقا لتعريف المصطلح ذاته، لا يمكن أن يتم عبر هيئة خارجية. إن أية حركة تحرر تطلب من سلطة خارجية أن "تضمن" لها حق تقرير المصير، تسبغ الشرعية على تلك السلطة في حق منح أو منع الأمر عنها. وعلاوة على ذلك، فإن النشاط المتمثل في "طلب" تقرير المصير باعتباره عملا منتجا: يعيد إنتاج هؤلاء الذين يتقدمون بالطلب باعتبارهم مفعولا به يؤمن بأن تقرير المصير هو أمر خارج عن ذواتهم، لا قائما في كنه نشاطهم الذاتي18. بعبارة أخرى، إن عملية منح الآخرين حق التصرف في "حقوقنا" يمنعنا من الإيمان بقدرتنا على ممارسة حقوقنا بأنفسنا، بل على العكس، فإنه يجعلنا مشاركين بإرادتنا في إبقائنا على قناعة بعجزنا.
ولكن، كيف يمكن للحركات البدء في خلق الشروط التي تضمن تقرير المصير حينما تتم مواجهتها بالعنف؟ هنا لربما ينبغي علينا أن نتذكر بأن السيطرة قد تأتي في أشكال مختلفة ومتداخلة. ففي حين