حضــورٌ فــي الخطــاب وفاعليــة فــي المشـــاركة

لم تسقط الراية فرفعها بديل، ولم تنعدم حركة العودة فأطلقها بديل، ولكن لمركز بديل بصمة مُميزة تبدت في وقت حرج نضدت ألوان الراية وأضافت إلى حركة العودة محركا لا زال يدور بنشاط. إن الانتقال بالفهم المُجرد والعام، أو الوعي المفعم بالحماسة إلى مستوى المعرفة بالحق وتفاصيله كمفهوم قانوني مُسند بالنصوص والأدلة، والشواهد، والتجارب خطوة قادها بديل. وإن الانتقال من مستوى التنظير والدعوة إلى مستوى صياغة المفاهيم والتحفيز والمشاركة والمبادرة هي ما يجعل من بديل مؤسسة أهلية تعمل لأجندة فلسطينية وطنية خالصة. ليس هذا من قبيل المديح، أو الإطراء، لأن ما يلزم من عمل لا زال أعظم وأكبر، إنما هو مجرد قراءة لمحطات بارزة تؤيدها مسيرة بديل خلال عشر سنوات من العمل.
وعليه، تحاول هذه الأسطر تناول عمل بديل في مجالين: مجال الدراسات والأبحاث القانونية ومجال حركة العودة، وذلك عبر تتبع الأثر على خطاب العودة ومستوى المشاركة. ونرى أنه للكشف عن ماهية ذلك الدور تصبح مراجعة سريعة لمفهوم العودة في تطوره التاريخي، ولمستوى المشاركة الشعبية في حركة العودة أمرا لازما يُمهد ويؤيد ما تقدم.
 

 
العودة وحقوق اللاجئين:

بعيد النكبة تقدّم شعار التحرير على غيره من الشعارات. كان من المفهوم ضمنا أن العودة كامنة خلف مفهوم التحرير الذي رفعته القوى السياسية العربية والفلسطينية الرسمية وغير الرسمية. وبانتظار التحرير، كما صوّر للجماهير آنذاك، توارى خطاب العودة خلف شعار التحرير باعتبار انه تحصيل حاصل للتحرير القادم. بالطبع لم يكن ذلك إسقاطا للحق أو تنازلا عنه، بل كان تعبيرا عن نموذج أو مشروع التحرير الذي صوّر النكبة الفلسطينية على أنها مجرد انقطاع خارج الزمن تزول آثارها بمجرد التحرير. ترتب على ذلك في المقابل أن تجمّدت صورة الوطن/ الديار الأصلية في الأذهان. لم يكن هذا أخطر ما في الأمر، بل إن الأخطر تمثل في إهمال التفاعلات الجارية عبر امتداد الزمن وأثرها على اللاجئين، الأمر الذي نشأ عنه على المستوى الفلسطيني إهمال غير مقصود لحقوق اللاجئين في منافيهم. لقد نشأ عن ذاك الإهمال أن أصبحت العودة رهن التحرير الشامل للأرض، ذلك التحرير الذي يكون باقتلاع الكيان الصهيوني الناشئ من جذوره، بل وأصبحت المطالبة بحقوق اللاجئين، غير العودة، تحسب على أنها إما: ترف في وقت يستوجب الإعداد للمعركة الكبرى، أو أنها تراجع مشكوك في انتمائه عن المشروع القومي في التحرير الشامل. نجم عن ذلك كله ان ارتبط مفهوم العودة وإمكانيتها بالتحرير الشامل؛ لذلك أصبح الحق يميل في النفوس إلى التحول إلى حلم يتكسر كلما وقعت الأعين على تغير أُحدث في القرية/الوطن.

بعيد حرب عام 1967، لم يعد شعار التحرير، كما صوّر سابقا، كافيا لإقناع الجماهير العربية والفلسطينية، ولا لإقناع الحلفاء الدوليين؛ الأمر الذي تطلب استجابة جديدة من قبل القوى الفاعلة. عملت منظمة التحرير الفلسطينية على إعلاء شأن الحقوق الوطنية الفلسطينية جنبا إلى جنب مع شعار التحرير. وبهذا اتجه الخطاب السياسي إلى إعلاء شعارات أبرزها: الحق في تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة، وحق العودة. وبرغم أن الإضافة تلك كانت ضرورية وإستراتيجية؛ إلا أنها ظلت بالمجمل (باستثناء بعض الاضاءات هنا وهناك) تدور في فلك الخطاب السياسي المحض؛ أي المستند إلى الحق التاريخي، والديني، والقومي للفلسطينيين في فلسطين. بكلمات أخرى، ظل الخطاب مجردا أو منقطعا عن المعطيات الفعلية المرتبطة بتفاصيل المعاناة الإنسانية، وعازفا عن مواجهة الادعاءات المقابلة لعجز أو لقصور أو لإهمال. بمعنى أن الخطاب السائد بقي خطابا خطابيا احتفاليا أو استعراضيا أو دعائيا يرسم إطارا ولكن بلا صورة.

بانطلاق مسيرة أوسلو أخذت الحقوق الوطنية كمفهوم رسخته قوى منظمة التحرير الفلسطينية تنزل من علياء المفاهيم المجردة.  كان ذلك بمثابة تحول دراماتيكي يستدعي توصيف الحقوق وتعيينها بدقة خصوصا وان متطلبات الانخراط في مسيرة أوسلو والمضي فيها كان موضوعيا يستدعي تمييع الحقوق الفلسطينية. فمن جهة، أقبل المجتمع الدولي على التعامل مع القضية الفلسطينية بتناول الحقوق الفلسطينية كإطار عام يُحظر أو يلزم تجنب الدخول في تفاصيله. ومن جهة إسرائيل، قيّدت مجمل المسيرة بقاعدة: المفاوضات الثنائية المباشرة والحل المتفق عليه بين الأطراف بما يسقط عنها ضمنا مسؤوليتها، ويعفيها مقدما من أي التزام لا تريده. ومن جهة المفاوض الفلسطيني شكل استبعاد القضايا الشائكة أو تأجيلها مدخلا لإعادة صياغة مجمل الإستراتيجية الفلسطينية، أو على الأصح مدخلا للتكيّف مع سياسة القطب الواحد المُهيمن. وما أن استنفذت الأدوات وما عاد متسع لعقد اتفاقيات جزئية أخرى حتى برزت قضية اللاجئين الفلسطينيين كتحدٍ يهرب منه الجميع خصوصا المجتمع الدولي، وإسرائيل، ذلك أن قضية اللاجئين تنطوي على استحقاقات واجبة التنفيذ. وهنا بالذات برزت أهمية تنضيد الراية وتفعيل حركة العودة. هنا بالذات كان لا بد لمؤسسات المجتمع المدني أن تتحرك في ظل القيود المفروضة على المفاوض الفلسطيني أو التي اغرق نفسه فيها.

بديل يتخصص في مجال حقوق اللاجئين:

بنى بديل إستراتيجيته على أساس التخصص في مجال حقوق اللاجئين الفلسطينيين، ولعل هذا المنحى؛ أي الابتعاد عن تشتيت الجهد في مجالات متعددة، شكل حجر الزاوية في النجاح التالي والتميّز. بديل لم يبتكر قانون اللاجئين، ولم يكتشف القرار 194 أو غيره من القرارات ذات الصلة، إنما نقل مفهوم العودة من قيد الإطار السياسي المحض إلى إطار أوسع نظريا وعمليا. بديل فصّل مفهوم العودة بكل ما يتضمن من حقوق بموجب قواعد القانون الدولي كمعيار للعدالة، فاكسبه بذلك بعدا قانونيا إنسانيا يتجاوز مجرد كونه حق وطني.

لقد استطاع بديل عبر شبكة الخبراء الدوليين والقانونين إقحام السياسيين، شاءوا أم أبوا، في معركة فلسفية قانونية في ظاهرها، وإجرائية سياسية في جوهرها. لقد لعبت منشورات بديل القانونية دورا محوريا في صياغة المواقف السياسية. فهي بالنسبة للمفاوض الفلسطيني مرجع معلوماتي، تحليلي يمثل الاستحقاقات الواجبة على العالم بأسره وليس مجرد الخط الأحمر المحظور على الفلسطينيين وحدهم. وبالنسبة للإسرائيليين صنفت دراسات وابحاث بديل كخطر استراتيجي، اذ يعجزون عن رده نظريا ولا يطيقون مجرد التفكير في احتمال انطباقه على واقع الحال. وبالنسبة للمجتمع الدولي شكل تقديم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الثوب القانوني منجلا في حلق الواوي؛ فلا هو قابل للبلع ولا هو قابل للفظ. لقد تتابعت "المنهجة" القانونية للحقوق في كتابات لم تأت لغايات بحثية أكاديمية صرفة، بل جاءت مترافقة مع تفاعلات سياسية متسارعة تكاد حركتها تفرغ الحقوق من مضامينها فشكلت بذلك جسر إسناد للمفاوض الفلسطيني، وخط مواجهة مع الجانب الإسرائيلي، ومحك مصداقية على المستوى الدولي. وغني عن القول، أن هذه النقلة تعني عمليا تحديا جوهريا لدعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الصميم. إن جهد بديل وشبكة خبرائه الدوليين على صعيد البحث القانوني مثل نقلة مركزة جعلت "المهتمين بحل القضية الفلسطينية" ليس فقط غير قادرين على إنكار حقوق العودة، واستعادة الممتلكات، والتعويض كحقوق إنسانية وقانونية رغم رغبتهم في شطبها؛ بل قبل ذلك بالإيفاء بالتزاماتهم الحالّة كدول ومنظمات عبر توفير الحماية الدولية، والمساعدة الإنسانية.

بديل يُفعّل مبادرات المشاركة الشعبية:

في السنتين الأخيرتين، يُلاحظ أن بديل قد بدأ ينتقل أكثر فأكثر إلى حقل تفعيل المشاركة الشعبية دفاعا عن حقوق اللاجئين، وحماية لها، وسعيا لتثبيت حضورها. يظهر ذلك في إستراتيجية المبادرة إلى تنظيم أو المشاركة في الحملات الدولية والشعبية. فإلى جانب حملة الدفاع عن حقوق اللاجئين، وحملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وحملة :أربعون عاما الاحتلال – ستون عاما على النكبة، يبرز مشروعا تدريب الناشئة في مجال الدفاع عن حقوق اللاجئين، وجائزة العودة.

 في مشروع تدريب الناشئة يعمل بديل بالتعاون مع ثلاث عشرة مؤسسة فاعلة في أوساط اللاجئين في مختلف مناطق الضفة الغربية و داخل الخط الأخضر. والى جانب ما يحققه المشروع في مجال معرفة الحقوق وآليات الدفاع عنها، فأنه يعكس  أثر التفاعل والتواصل بين المؤسسات المشاركة في إتساع قاعدة ومستوى المشاركة باضطراد.

وفي مشروع جائزة العودة السنوية، وهو مشروع ريادي، تتجلى صور المشاركة الواسعة عبر التحفيز على الإنتاج الإبداعي والذي يمثل في حقيقته أكثر من استحضار لأمنيات العودة وذكريات الماضي، حيث كشفت المسابقة في سنتها الأولى عن إبداعات ترسم خطى العودة.

إن دور بديل يظهر في تتبع مسار نشر ثقافة العودة المبني على إدراك الحقوق، والمشاركة الفاعلة اللذان يشكلان بدورهما ركني حركة العودة.

_________________

نضال العزة هو ناشط فلسطيني في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان. وهو عضو مؤسس في مركز لاجئ في مخيم عايدة للاجئين.