المطالبات الفلسطينية بجبر الضرر في السياق الدولي

بقلم: مايك دمبر*

هل تتأثر حقوق الناس المقتلعين من أرضهم والراغبين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم بمرور الوقت؟ هل هنالك فرق بين العائدين في اليوم الذي حدث فيه الإخلاء القسري أو في الأسبوع الذي تلاه، وبين أولئك الذين ما زالوا يسعون إلى العودة بعد سنوات عديدة؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف لهذا أن يؤثر على حقوق اللاجئين الفلسطينيين؟ هذه هي الأسئلة التي خطرت ببالي حالما راجعت المواد التي جمعتها لدراسة الحالات عبر العالم وعبر التاريخ حول الاقتلاع القسري خلال السنوات الستين الماضية.1

إن الإجابة على الأسئلة الثلاث السالفة، على ما يبدو، هي نعم ولا. لقد بحثت هذه الدراسة في تسع حالات متعلقة بجبر الضرر اللاحق باللاجئين والنازحين، وقد خلصت إلى أنه في حين تبقى الكثير من الحقوق، فإنه ومع مرور الوقت تظهر حقوق جديدة أيضا، مما يجعل حل مسألة التهجير القسري مسألة معقدة.2

إن جبر الضرر عن التهجير القسري يتكون من ثلاثة عوامل رئيسية: الرضى، اعادة الحالة الى ما كنت عليه/استعادة الممتلكات، والتعويض.3 وسوف تركز هذه المقالة على مسألة الاستعادة، وأيضا، إلى حد ما، على مسألة التعويض. في معظم الحالات، هنالك ثلاثة أشكال من الاستعادة. الشكل الأول هو الإعادة العينية، ويعتبر هذا النموذج هو النموذج المثالي لجبر الضرر، حيث يستعيد الشخص المطرود حق امتلاك ذات الشيئ؛ الأرض أو العقار اللذين تم إخلاؤه منهما كجزء من اتفاقية سلام تسوّي الصراع الذي أدى إلى إخلائه في المقام الأول. فإذا كانت الممتلكات قد تم هدمها، فإن [صاحب الملك] يستعيد حق تملّك الأرض ويحصل على تعويض عن تكاليف إعادة الإعمار. هذا الشكل من الاستعادة، في الواقع، يكون في الغالب محدود بسبب حقيقة وجود الشاغلين/الحائزين اللاحقين. إن مصطلح الشاغل/الحائز اللاحق يعني حيازة او شغل أرض أو ممتلكات تعود اصلا لنازحين من قبل نازحين آخرين أو مستوطنين جدد قد مُنحوا حق ملكية العقار من قبل الدولة. وفي معظم الحالات التسع قيد الدراسة، فإن حقوق هؤلاء الشاغلين اللاحقين تبقى قائمة وتحصل على درجة من الحماية بالاستناد إلى طبيعة اتفاق السلام. ما تشير إليه دراسات الحالة هذه، هو أنه غالبا ما يتم التوصل إلى اتفاقيات السلام بعد أخذ عدة عوامل بالاعتبار، من ضمنها  المهمات القانونية الشاقة لإزالة الشاغلين اللاحقين والعثور على مساكن بديلة لهم، بالاضافة الي التكاليف والوقت اللازمين لانجاز الأمر، بالإضافة إلى كون اخراجهم [من الممتلكات]  قد يزعزع  استقرار الاتفاق السياسي الغض. ومن ضمن الحالات التسع المدروسة، فإن تلك التي تدرس حال البوسنة والهرسك وكوسوفو والعراق ما بعد حكم البعث، قد حددت فيها هذا النوع من الاستعادة، ولكنها كانت قادرة على فعل ذلك بفضل دعم التدخل الخارجي. أما الحالات التي سُعي فيها إلى تقييد هذا النوع، فقد كانت في رواندا وقبرص وجنوب وإفريقيا، على أساس أن جبر الضرر الكامل سيؤدي إلى أيضا زعزعة الاستقرار. إحدى الطرق المبادِرة للتعامل مع هذه الصعوبات قد اتخذت في جنوب إفريقيا، وهي تلك المعروفة باسم التأجير المعكوس، حيث تم رد حق التملّك إلى المطالبين - أصحابها الأصليين - شريطة الاستمرار في تأجير العقار للشاغلين اللاحقين.

أما الشكل الثاني من جبر الضرر فيتمثل في التعويض بمقابل أي عرض استثمارات بديلة لأولئك الذين قد فقدوا أرضهم أو عقارهم. وهنا، فإن الممتلكات القابلة للتبادل (المقابلة) هي عقارات بديلة يتم تقديمها كشكل من أشكال التعويض. عادة ما يترافق ذلك مع  منح النازحين مساعدة عند عودتهم إلى وطنهم لتسهيل الاندماج فيه، او إعادة تدريب هم وتأهيلهم، او بعض الأموال اللازمة لبدء الأعمال التجارية او السندات أو قسائم لاقتناء ممتلكات أخرى. في خطة كوفي عنان بشأن قبرص، تم منح حوافز للنازحين المقيمين في ممتلكات نازحين من الطرف الآخر لإجراء تبادل أو تم تزويدهم بسندات لاقتناء عقارات بديلة عن تلك التي قد خسروها. أما في غواتيمالا، فقد تم منح اللاجئين ائتمانا رخيصا لشراء الأراضي، في حين، في أوروبا ما بعد الشيوعية، تم منح المطالبين حزم مساعدات/خيارات بديلة للأرض. مجددا، إن نزع ملكية الأراضي والممتلكات من الحائزين اللاحقين فعليا بهدف توفير السكن وسبل العيش البديلين قد كان صعب التنفيذ.

النموذج الثالث من "الاستعادة" ، هو الأكثر انتشارا، ويأتي كمساعدة إنمائية. ووفقا لهذا النموذج، فإن اتفاق السلام ينص على الدعم المالي لبرامج الدولة المتعلقة بشؤون الإسكان والتنمية الزراعية وتطوير البنية التحتية وغيرها من الخدمات المصممة لدمج اللاجئين العائدين وغيرهم من المشردين. إن هذا الشكل من أشكال جبر الضرر يعترف بأن هذه المجموعات تحتاج إلى المساعدة في تطوير سبل العيش المستدام، وبشكل أكثر تحديدا بحاجة هؤلاء إلى حزم المساعدات التي تتم مواءمتها وفقا لخبراتهم وثقافتهم. إن المثال الرئيسي لهذا الشكل من جبر الضرر يمكن استقاؤه من الحالة الجنوب إفريقية حيث أصبحت سياسة إصلاح الأراضي سمة أساسية. ومهما يكن من أمر، فإن العيوب في تنفيذ هذا التوجه، كالبطء في التسليم، عدم إمكانية الاعتماد على قواعد البيانات المستخدمة، وانعدام التكامل مع برامج الدولة الأخرى، تشير إلى الحاجة إلى اتخاذ تدابير تنفيذية قوية وإلى تخطيط شامل.

بالتطرق إلى العنصر الثالث من جبر الضرر، التعويض، فإننا نرى، مجددا، أشكالا مختلفة تهدف للتعامل مع حالات محددة. فالتعويض عن خسارة الملك وعن التشرد يمكن أن يتخذ شكل دفعات نقدية، أو توفير قسائم أو تخصيص السندات. لكن هذه الأشكال ذاتها تخضع لأنواع مختلفة من التقييمات. بعضها (قليل جدا) يعطي القيمة الكاملة وفقا [لسعر] السوق، والبعض الآخر نسبي، يعرض بعض من قيمة العقار بالنظر إلى تاريخ نزع الملكية وإضافة قيمة التضخم. والبعض الآخر يعرض تقييمات للسعر وفقا لتواريخ متأخرة عن تاريخ نزع الملكية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن  طريقة الدفع تتنوع بشكل كبير. ففي بعض الحالات يتم دفع مبلغ مقطوع للدولة بهدف تخصيصه للأفراد أو الجماعات أو البرامج. وفي حالات أخرى يتم إنشاء صندوق دعم/تعويض يكون على الفئات والأفراد التقدم بطلباتهم إليه. إننا بحاجة للاعتراف بإن الإطار الفردي من التعويض عن الخسائر في الممتلكات قد يستنسخ التفاوت المادي الذي قائما من ذي قبل ويؤدي إلى اختلال في التساوي؛ فمثلا، سنجد أن المالك الثريا في السابق سيتلقى أكثر بكثير من مجرد من كان عاملا معدما سابقا. وهذا ما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية داخل مجتمع المشردين ويضر بعملية إعادة بناء الدولة.

"إن حقوق اللاجئين وغيرهم من المهجرين لا تتقلص بالضرورة بمرور الوقت، لكن حقوق الحائزين اللاحقين تتنامى بانقضاء الوقت، وما يتخلله من وتناقل الملكية بتعاقب الأجيال"

أخيرا، فإننا نلاحظ، من خلال الحالات قيد الدراسة، وجود اليسير من الأمثلة التي تمكن فيها اللاجئ أو المجتمع الذي تم اقتلاعه بالقوة، من الحصول على حرية انتقاء خيار من بين خيارات عدة. ففي معظم الحالات، تم افتراض أن "الاستعادة" هي الخيار المفضّل وأن التعويض النقدي (والذي يكون عادة أقل من سعر السوق) يُعرض حين تنعدم إمكانية اعادة الحالة الى ما كانت عليه. في المثال القبرصي، تم إعطاء الحائزين اللاحقين الذين هم أنفسهم المطالبين المشردين عن الممتلكات خيارات محدودة في العودة إلى ممتلكاتهم الأصلية أو اختيارهم حق تملك ممتلكاتهم الحالية. وفي مرحلة ما بعد الشيوعية في أوروبا، تم منح بعض المطالبين الخيار بين استعادة الملك المفقود أو تلقي تعويضات عنه. وفي جنوب إفريقيا، فإن الخيارات كانت محدودة بحكم كون المفاوضات بشأن التعويض تتطلب مشاركة جميع الأطراف التي تسببت في صعوبة التوصل إلى اتفاق، ونتيجة لذلك تم اختيار التعويض من أجل تجنب الوصول إلى طريق مسدود. ومن الواضح أيضا من دراسة الحالات أنه حتى عندما يكون الاسترداد ممكنا، فإن العديد من المطالبين يفضلون بيع العقار بدلاً من العودة إليه. وذلك ربما بسبب التغيرات الديموغرافية التي حدثت في محيط العقار. ومع ذلك، فإن هنالك كمّا متزايدا في التوجّه "الناعم" في القانون الدولي والذي يضع مسألة خيار اللاجئين في طليعة مفاوضات السلام ويفترض دورا لمسألة ممتلكات النازحين.

لتلخيص هذا الاستعراض الموجز وربطه بالحالة الفلسطينية، أقول أن إجراء دراسة مقارنة لحالات جبر الضرر سيجلب كلا من الأخبار الجيدة والسيئة. إن الأخبار السيئة تكمن في أن الاستعادة العينية تحدث، ولكنها ستحدث فقط في حالات محدودة. فعادة الاسترداد الكامل يحصل في فترة مبكرة بعد وقوع التهجير القسري وعادة يحتاج إلى تدخل خارجي قوي لكي يدعمها. والبوسنة والهرسك بالإضافة إلى كوسوفو هما مثالان رئيسيان على الأمر. بينما، وبالنظر إلى الحالات التي تمت دراستها، فإن حقوق اللاجئين وغيرهم من المشردين لفترات طويلة رغم انها لا تتناقص بالضرورة، لكن وكما يبدو أن حقوق الحائزين اللاحقين تطفو وتزداد بمرور الوقت على العقار، ومع انتقال العقار إلى الأجيال المتعاقبة. وبالتالي فإن حقوق اللاجئين ستبقى على حالها، لكنها لا تعود الحقوق الوحيدة التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار.

أما الأخبار السارة فتنطوي على جوانب ثلاثة: أولا، في حين أن العديد من جوانب قضية اللاجئين الفلسطينيين هي فريدة من نوعها، إلا أنها من هذه الزاوية [زاوية جبر الضرر] ليست كذلك. فحق الحصول على التعويض واستعادة الممتلكات هو موضوع يتشابه مع العديد من حالات النزوح القسري. ليس الفلسطينيون معادين للسامية أو متطرفين بسبب سعيهم إلى جبر الضرر: إن مطلبهم هذا هو مطلب طبيعي ومفهوم من جانب أناس قد تم انتزاع ملكيتهم. والجانب الثاني هو أنه إذا برزت حقوق الحائزين اللاحقين كعقبة رئيسية في استرداد الممتلكات، لاسيما في حالات اللاجئين التي طال أمدها كحالة الفلسطينيين، فالأمر لا ينبغي أن ينطبق على الممتلكات التي بقيت فارغة ومهجورة، او قابلة للاسترداد. وفي هذا السياق، فإن طرح الدكتور سلمان أبو ستة حول كون 70% من الممتلكات الفلسطينية في إسرائيل ما زالت خاوية تتطلب إثباتا مقنعا.4 وثالثا، أدت تجربة المجتمع الدولي في الاعتراف بطلبات جبر الضرر إلى مجموعة من الأشكال المبتكرة من التعويضات والتي ثبت أنها مقبولة على النازحين. ونادرا ما أنجزت [هذه الأشكال] حلا مثاليا لكنها حققت قدرا من الرضى. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن اتفاقات السلام نادرا ما أدمجت حقوق الأشخاص المتضررين من النزاع بقدر ما عكست أكثر ميزان القوى بين الأطراف الرئيسية وقت التوقيع.

----------------------

*مايك دمبر: بروفيسور في دراسات الشرق الأوسط في جامعة إكستر، المملكة المتحدة.



[1] أنظر الدراسات المقارنة الأخرى  Leckie, Scott, (2007) Housing, Land and Property Restitution Rights of Refugees and Displaced Persons:Law, Cases and Materials. (Cambridge: Cambridge University Press); Wühler, Norbert, and Heike Niebergall, (2008) Property Restitution and Compensation: Practices and Experiences of Claims Programmes. Geneva: International Organization for Migration); Dumper, M., (ed) (2006) Palestinian Refugee Repatriation: Global Perspectives. (London: Routledge).

[2] الحالات قيد الدراسة هنا  هي التالية: البوسنة والهرسك (إتفاق دايتون سنة 1995)، خطة عنان لقبرص (2003)، غواتيمالا (2006)، تعويضات المحرقة اليهودية (1952 وما بعدها)، مرحلة العراق ما بعد البعث (2003) وكوسوفو (1999)، مرحلة ما بعد الشيوعية في أوروبا (1989 وما بعدها)، رواندا (إتفاقات أروشا، 1993) وجنوب إفريقيا (قانون حقوق الأرض، 1994)

[3]يشمل الرضى اعترافا من مرتكب المخالفة التي وقعت والذي يطالب أيضا بالتعبير عن اعتذاره. الأمر يأخذ في بعض الأحيان شكل اعتذار رسمي أو شكل "الحقيقة والمصالحة" .. للمزيد من التفاصيل أنظر see Dumper, M., (2007) The Future of Palestinian Refugees (Boulder, CO, and London: Lynne Reinner)  الفصول 6 و 7

[4]Abu Sitta, S., Palestinian Right to Return: Sacred, Legal, Possible. (London: Palestinian Return Centre, 1999).