بقلم: فراس جابر*

هل يمكن لنا أن نقيم جسراً للعودة؟ هل لهذا الجسر أن يُحول الحديث عن نكبة الشعب الفلسطيني من سرد مضني للألم والذكرى إلى حافز للعودة؟ هل له أن يمر فوق قرارات الأمم المتحدة التي ما تزال بانتظار التطبيق  بتحويلها إلى فعل مركزي جديدا؟

فعل مركزي جديد يؤسس على إقامة بنى شعبية فلسطينية تتجاوز مسألة الاحتفاظ والمناداة بحق العودة ونتقل به إلى ممارسة فعلية له بشتى الطرق والوسائل الشعبية. فعلاً ينبني جدياً ويلتقط مسيرات اللاجئين على حدود سوريا ولبنان، وعبور بضعة أفراد بالفعل ووصولهم إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها، بحيث تصبح صيرورة دائمة الدلالة ومتعددة الأشكال والوسائل. هذا الفعل الذي يؤسس لبنية مركزية قائمة على مقولة واحدة "ممارسة حق العودة" بحيث تُوظف في سبيلها كافة الطاقات الوطنية المهدورة لتصبح ذكرى النكبة ممارسة مضادة تناهض فعل "نفي" الفلسطيني إلى "حضور" منزرع في أرضه ووطنه، وتعمل على تفكيك "المحميات" التي أسسها الاستعمار الصهيوني وصولاً إلى فضاء فلسطيني حر ومتحرر من القيود والحواجز والجدران والأسلاك الشائكة.

إن تركيز الممارسة السياسية الرسمية والحزبية في الأراضي الفلسطيني قائم على أسس "محسوبة" بحيث لا تزعج القوى الدولية، ارتكازاً على جملة مصالح تأسست على مر عقود. أما نوع الممارسة الثانية التي أضحت في تراجع مستمر فتتمثل فيما يعرف بـ مقاومة "محسوبةبحيث تسهم في إضفاء مشروعية على مشروع سياسي، كما أنها تميل إلى تكرار فكرة "المغالبةوتتجاهل القدرة والإمكانية لزراعة الإنسان الفلسطيني على أرضه. الأهم أن هذه البنى السياسية لا تعمل وفقاً لمقولة السيطرة وتحرير الحيز الفلسطيني، ككينونة مادية، وعلاقات بجوهر إنساني، وأنظمة الحكم، من الاحتلال، بل يتم العمل على انتظار لحظة واحدة تمر عبر "السلام" من أجل اكتساب السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، علماً بأن الاحتلال لا يتوقف عن ممارسة الاقتلاع والإزاحة بحق الفلسطينيين.

إذن، كمحصلة لهذا التنويه العجول، نحن نتحدث عن تجاوز بنى الفعل الفلسطيني القائمة والمحدودة إلى بنية شعبية مرنة يمكنها بالمران والممارسة أن تخلق فعلاً جديداً قائماً بالأساس على تحقيق العودة من خلال وسائل وتنظيرات تتجاوز السائدة، بحيث تحول زخم الارتباط الحنيني بالأرض والمكان إلى علاقة تواصل معها. نعرف أن تخليق "الجديد" يصطدم بالقديم عادةً، ولكن هذا الجديد يرتبط بالقديم الأصيل لأنه يستعيده، ويعود به إلى لحظة زمنية أصلية ومتجددة بذات الوقت.

معادلة القضية الفلسطينية، وفي محاولة شديدة لتبسطيها تنطوي على الأرض والإنسان، والأدوات المستخدمة الآن تتجاهل الأرض والإنسان، وتركز على البنى السياسية، لذلك نجد أن حضور القضية الفلسطينية والانتماء الوطني في تجليات الوعي العامة في تراجع مستمر، لأن الإنسان بطبعه يميل للحرية على حساب الخضوع والضبط لسلطة سياسية مهما كانت، فما بالك بوجود بنية استعمارية تعمل على الاقتلاع من جهة، وزرع ما هو غريب من جهة أخرى، فيما نجد أن البنى الفلسطينية تعمل على الإخضاع أكثر. يبقى أمامنا كإستراتيجية أن يتم توظيف كامل لأحد عنصري الصراع (الإنسان) توظيفاً يمعن في تحقيق شرط الإنسانية من خلال ممارسة الوجود والتحرر، وكذلك توظيفاً يتيح ممارسة العودة كشرط إنساني فلسطيني، أي أن تحقق العودة لأي فلسطيني من الشتات أو الأراضي المحتلة من خلال ممارسة العودة إلى الأرض، أي أرض فلسطينية وبناء تفاعل معها من خلال البناء والعمل والزراعة، عودة لا تلتزم بمناطق "التواجد" الفلسطيني المقيدة، بل تنفتح نحو المناطق الفلسطينية غير المأهولة.

يعيدنا غسان كنفاني وإلياس خوري وناجي العلي وغيرهم، من خلال الأدب المقاوم إلى أفراد مارسوا هذا الحق بالعودة عبر ممارسة المقاومة والنضال أو من أجل الرجوع للوطن. ففي عائد إلى حيفا "حين وصل سعيد إلى مشارف حيفا، قادما إليها بسيارته عن طريق القدس، أحس أن شيئاما ربط لسانه، فالتزم الصمت، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل. وللحظة واحدة راودتهفكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت، وفجأة جاءصوت البحر، تماما كما كان. كلا، لم تعد إليه الذاكرة شيئا فشيئا. بل انهالت في داخلرأسه، كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداثفجأة، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده."[1] وبقدر ما يشدنا، وما يزال فاعلاً، هذا الأدب إلا أنه لم يوظف سياسياً ووطنياً بالمعنى الواسع ضمن الصراع، بل بقي مادة تحريضية، وفي الفترات الأخيرة تميل البنى السياسية والفكرية الرسمية إلى تجاهل هذا النوع من التحريض الفكري الوطني، وتعمل على إشهار الصور الفنية والذائقة الشعرية.

العدو يميل خلال الصراع إلى توظيف منهجي وواعي لفكرة الاقتلاع والفصل، فنجد أن بناء السور الفاصل أو الجدران حول الحدود هي محاولة لتحقيق هدفين، والهدفان أهم من فكرة "الأمن" وحدها، أو حتى فكرة "ألفصل" أي فصل الفلسطيني عن "الإسرائيلي" رغم صوابيتها، إلا أنها تسعى لتحقيق الهدف الأول المعروف بالسيطرة على الحيز والأرض، والحيز هنا يعني الداخلي "المأسور"، والثاني هي احتجاز الفلسطيني العربي بالخارج، ومنع دخوله إلا ضمن شروط الضبط والتطويع التي تحددها قوة الاحتلال، أي أنها تأسر الفعل الممكن وتبقيه بالخارج/ الداخل تحت الحد الأدنى الذي يجب أن يتوفر للبقاء على قيد الحياة.

نحن نجد أنفسنا أمام لحظة مختلفة في تاريخ الاستعمار تتشابه ربما في تاريخ استعمار أمريكا الشمالية من قبل أوروبا الكولونيالية، فالاستعمار يميل لفصل نفسه داخل أماكن محصنة ومعزولة عن باقي الشعب المستعمر من أجل حماية نفسه، إلا أننا كفلسطينيين محصورين في أماكن محصنة تشبه السجون الكبيرة التي تتبع نفس التقنية في "الضبط" و"التحكم" بالأسرى، وتقسيمهم إلى مجموعات أصغر ليسهل التحكم فيهم، وأي قراءة لتقسيم الضفة الغربية يوصلنا لنفس النتيجة.

هذا ما حصل فعلاً في تاريخ استعمار أمريكا الشمالية التي "جادلت" في أن السكان الأصليين لا يستخدمون الأراضي لغايات البناء والإنتاج، كما أن الرجل الأبيض يستطيع التعامل "بعقلانية" مع هذه الأرض، جزء من هذه العقلانية إصدار القوانين التي تكرس تفوقه والاستعمار، ولاحقاً ومع إبادة السكان الأصليين جرى حصر الباقيين منهم في محميات، وجرى التخلص من النفايات السامة بالقرب من هذه المحميات.[2] وعليه يجري توليد رواية "التفوق والشجاعة" في اقتحام الأرض البكر المجهولة وقتال "البدائيين"، كما يجري الآن من طرف المستوطنات، مع فارق تطور تكنولوجيا التحكم والضبط للجموع البشرية، أي السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع تجميع السكان في أماكن نائية بعيدة عن "المركز"، والسيطرة عليهم من خلال القوة والحراسة؛ تلك التي نشاهدها على الحواجز العسكرية.

يتضمن إذن نفي الفلسطيني عند الحديث عن نكبته لا لحظة زمنية فارقة 47-1948 بل ماكينة استعمارية تتعلم وتتطور يومياً في ممارساتها من أجل إزاحة الفلسطيني إلى "الهامش"، الذي أصبح متعدداً، مدن وقرى عربية بالداخل يجري حصارها وتهويدها و"دمجها"، قطاع غزة يجري حصاره وإبعاده بالكامل عن التواصل الجغرافي، تقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى "محميات" مكتظة بالسكان، مخيمات الشتات الصغيرة التي لا تنفتح بالإمكانية لممارسة تواصل مع فلسطين، هذا يعني أن التضاد مع هذه الأيديولوجية يتم من الخارج "التدفق" الفلسطيني للعودة إلى الحيز المحيط، المكان الأصلي من خلال نشاط جماعي وعشوائي غير منتظم بحيث لا يصبح الضبط ممكناً من خلال القوة العسكرية أو من خلال حصار التجمع نفسه.

حينها يمكن التساؤل هل تصبح المخيمات فعلا حيزاً يدل ويؤشر على العودة أو على النكبة؟! والفارق كبير. لماذا لم يتم انتشار الفلسطينيين وتحديداً اللاجئين في التلال والوديان الخالية من السكان لحمايتها بعد مرور فترة؟ ولنتجاوز الإجابة بضرورة تقديم الخدمات وتسهيلها، أو استئجار أراضي محددة.

لأن المقارنة لا تتم بين المخيم الآن والقرية كصورة حنينية للاجئ الفلسطيني، وإذا أردت الضغط أكثر على هذه الصورة الحنينية فلم تعد القرى والمدن التي هُجر منها الفلسطينيين كما كانت إلا في مخيلة كبار السن، وهذا يعني أن العودة بشقها العملي تتم إلى الحيز الفلسطيني المتاح، وممارسة بناء مجتمع فلسطيني جديد بعلاقات جديدة.

لا أدعي امتلاك أجوبة ولكنها فسحة من الكلمات للتفكير في إمكانية تفكيك نموذج المحميات الاستعماري وصولاً إلى حيز فلسطيني حر يمارس عليه الفلسطينيون عودتهم بشتى الطرق.

-----------------------------

*فراس جابر: باحث مؤسس/ مرصد السياسات الاقتصادية الاجتماعية. له عدة دراسات تتعلق بشان الاقتصاد التنموي والاجتماع العربي والفلسطيني، القدس. 



[1] غسان كنفاني. راوية عائد إلى حيفا.