المؤرّخ "إيلان بابيه": الربيع العربيّ يضع إسرائيل بعكسِ مسار التاريخ

إعداد، يوآب حيفاوي*

المؤرخ الإسرائيلي المعروف "إيلان بابيه"، كان في فلسطين في زيارة للوطن. وقد حل ضيفاً على حراك حيفا” يوم الخميس الموافق 3.1.2013 لتقديم محاضرة حوارية حول "عاصفة الربيع العربيّ، وكيفية تأثيرها على احتمالات حلّ القضية الفلسطينية".

نادي “حيفا الغد” في وادي النسناس كان يعجّ بالناشطين الذين جاءوا للاستماع للمحاضرة. ولم يحضر "إيلان بابيه" بيننا كمؤرّخ خلافيًّ، وإنما كشريك وكلاعِبٍ، اذ يمكن القول إنه كان في "الملعب البيتيّ". جميع الحاضرين الذين أتوا كمهتمّين بالأحداث التي تعصف بمنطقتنا كانوا معنيّين بالاستماع إلى ما يستبصره الرجل كمؤرخ.

يقول المؤرّخ "بابِيه" إنه ومن منظور تاريخيّ، تشكل السنتان الأخيرتان لحظة في الزمن، وإن المؤرخين الذين “يتكهّنون حول الماضي” لا يملكون بالتأكيد أنباءَ حول المستقبل. ولذلك فإن ما يبقى لنا هو التأمل في العمليات والصيرورات التي تحصل أمام ناظرَينا لنحاول أن نفهم من خلالها طابع المرحلة الجديدة التي نقف شهوداً على بدايتَها.

وشدّد بابِيه أن "الربيع العربيّ" ليس سلسلة أحداث منفردة في كل بلد بشكل منفصل، وإنما هو صيرورة تغيير شاملة بدأت لتوّها ويمكنها جلب تغييرات عميقة في بلدان أخرى في المنطقة. علاوة على ذلك، فإن "الربيع العربيّ" هو جزء من صيرورة تغيير في الخريطة السياسية العالمية، حيث إنها تكشف عن أزمة الهيمنة "الغربية": هيمنة أوروبا والولايات المتحدة. وتشمل هذه الأزمة أزمة داخلية بدأت مع الأزمة الاقتصادية عام 2008، والتي أصبح واضحًا خلالها للجميع أن أقطاب النظام الرأسمالي تصرّفوا بالارتكاز على خداع الجمهور، بشكل ألحق ضررًا فادحًا بالاقتصاد والمجتمع كلّه وبدون أن يُحاسَب على ذلك أحد. أما في الناحية الدوَلية تبرز الصين والهند ودول أخرى كقوى اقتصادية مركزية تستطيع التأثير أيضاً في علاقات القوى الجيو-سياسية. هذه هي الحالة التي يبزغ على خلفيتها الربيع العربيّ، معتمداً على النضال الجماهيريَ المباشر، حيث أصبح “ميدان التحرير” رمزاًً، ونموذجاً تصبو جماهير واسعة لمحاكاته في أوروبا والعالم أجمع.

تمحورت الندوة حول إسقاطات "الربيع العربي" على الحلبة الدولية وعلى مكانة إسرائيل من ضمنها. وكان واضحاً أن "إيلان بابيه" الذي يعايش العالمين، يعرف عن كثب النخب الحاكمة في أوروبا، كما ويعرف دوائر اليسار في هذا العالم. ويتحدث من منطلق معرفة وثيقة بالأبعاد النفسية المرافقة لأزمة الصهيونية بين ظهراني الجمهور اليهودي، وهبوب رياح جديدة من مصر، حيث شارك هناك مؤخرًا في مؤتمر حول "الربيع العربي" مع أصدقاء قدامى من اليسار وأصدقاء جدد من الحركات الإسلامية. وفي تحليقه فوق، وتنقله بين، هذه العوالم يرسم للجمهور كيف تبدو الصورة السياسية الشاملة الآن. نظرة من أعلى ولكن ليست من بعيد، مع "تقريب" فوتوغرافي لكل تفصيل وتفصيل.

التحولات في النظام العالمي

وصف "إيلان بابيه" الهيمنة الغربية على نظام عالمي فيه 10% يستغلون 40% من موارد العالم. واليوم تزداد صعوبة الإبقاء على مثل هذا النظام، وهنالك خوف من محاولة استعمال مفرط للقوة لوقف عملية تآكل هيمنة الغرب، وقد كانت الحرب على العراق نموذجاً لذلك.

ومع ذلك فإن المَيْل الرئيسي الملاحَظ اليوم هو ميل نحو التأزم السياسي العميق في أوروبا والولايات المتحدة، بمرافقة كل من الأزمة الاقتصادية وتآكل الهيمنة العالمية. وكذلك انعدام الثقة بالمؤسسة السياسية القائمة، الذي  يولّد حركات شعبية من نوع جديد وطموحاً عاماً للتحول الديمقراطي وللدفاع عن حقوق أولئك الذين طالما سحقتهم عجلات النظام القائم. إنها "روح العصر" التي لا يقتصر تأثيرها على حلبة دون سواها.

الروح الديمقراطية الجديدة متأثرة أيضاًً بالتحولات التكنولوجية، والأدوات الجديدة التي تتيح لجمهور واسع أن يلعب دوراً فعّالاً في نشر المعلومات ومناقشتها. وفعلياً، لا تستطيع سلطة اليوم أن تغلق باب النقاش. والشباب يقومون بدور فعّال ومهم في إطار هذه التحوّلات. من الناحية الثقافية، لا يختلف الجيل الشاب في الصين عن أترابه في الغرب. وعليه، فالنزعة إلى الديمقراطية ليست خاصة بالغرب وإنما هي في كل مكان، بما في ذلك بورما وشمال كوريا.

الربيع العربي كحركة لأجل الديمقراطية بقيادة الشباب وبقوة حركة شعبية واسعة، يشكل جزءًا متقدماً من "روح العصر"، روح التحول الديمقراطي، ونموذجاً للمحاكاة بالنسبة لآخرين. في المقابل، تبرز إسرائيل سلباً في العالم كدولة ومجتمع يتطوران باتجاه معادٍ للديمقراطية على نحوٍ صارخ.

زعزعة مكانة إسرائيل

طيلة زمن طويل استطاعت إسرائيل أن تناور لاكتساب دور مركزي بالنسبة إلى الأجندة العالمية والإقليمية. بعد الحرب العالمية الثانية كان هنالك حاجة أساسية لدى الغرب لإعادة ألمانيا الغربية إلى "عائلة الأمم" كجزء من الاستعدادات الجيوسياسية. وقد استطاع "ديفيد بن غوريون" استخلاص الفائدة القصوى لإسرائيل بالمال والتأثير، عَبْرَ تقديمه الغفران باسم آخر ضحايا التاريخ إلى “ألمانيا الأخرى”. لاحقاً، اندمجت إسرائيل كموقع أمامي للغرب في الحرب الباردة. ومع انتهاء الحرب الباردة والإعلان الفوكويامي لـ"نهاية التاريخ"، سوّقت إسرائيل نفسها كمجتمع حديث مفتوح تطور في وسط عالم ثالث إلى مرتبة عالم أول. ثمّ عندما أسقط الغرب عن أجندته "نهاية التاريخ" وانتقل إلى "الحرب على الإرهاب" والصراع ضد الإسلام، كان من الطبيعي أن تصل مكانة إسرائيل الى ذروتها، إذ سوقت نفسها في الغرب ككبرى المتخصصين في هذا الموضوع.

الآن، حيث "الربيع العربيّ" يعرض نموذجاً جديداً للديمقراطية في الشرق الأوسط، وحيث تنكشف إسرائيل أكثر وأكثر كواحة لللاديمقراطية، نحن نرى للمرة الأولى أن إسرائيل لا تعرف ماذا تقول ولا تستطيع ملاءمة نفسها مع متطلبات هذه المرحلة الناشئة كما في المحطات السابقة عليها. وحتى وظيفة "المختصين بالشؤون العربية" أمام الغرب، وهي نحلة تقوم على أسس إستشراقية، لم تعد إسرائيل قادرة على الحفاظ على مستوى أدائها في هذه المرحلة. الواقع الجديد الناتج في الدول العربية يفرض نفسه على الحلبة السياسية، والنخب الغربية آخذة في التعوّد على العمل مع السلطات الجديدة في الدولة العربية، حيث يمكن القول انه لا يوجد لإسرائيل أي دور تقوم به، كما كانت تفعل في السابق.

وحتى إزاء السيناريو المفضل لدى إسرائيل، ضمنَ تصوّر تحاول إنتاجه مدّعية بأن "الربيع العربي تحوّل إلى خريف إسلاميّ"، لو قبل الغرب هذا التصور وتبنّى نهجاً معادياً للحكومات العربية الجديدة وللتغيير الديمقراطي في المنطقة، قد تجد إسرائيل نفسها عبئاً على الغرب وليس ركيزة تعزّز سيطرته. ففي مصر، على سبيل المثال، الخلاف العميق بين الإخوان المسلمين والمعارضة العلمانية لا يشمل مبدأ رفض إسرائيل وومبدأ دعم الفلسطينيين فهما عاملان موحدان لا يختلف الطرفان عليهما. وفي شرق أوسط يخطو نحو الديمقراطية، كجزء من عالم يناضل فيه الكثيرون لأجل مزيد من الديمقراطية، وحيث ان علم فلسطين يشكّل بالنسبة للجميع رمزَ النضال لأجل الحرية، فبالتأكيد تجد إسرائيل نفسها على تضادّ مع مسار تيار التاريخ.

هذه التحوّلات لن تكون ترجمتها الفورية وقف دعم إسرائيل. فعلى الصعيد العسكري وعلى صعيد المصالح، ما زال هنالك الكثير من الدعم المتدفق عليها، وهنا لا يجب التوقع بان تلعب القيم دوراً. كما أن هنالك اللوبي الصهيوني وشراء دعم سياسيين محليين بالأموال والنفوذ، عن طريق التبرع للأحزاب كمثال على آليات النفوذ والهيمنة. لكن، بالقوة وبالفساد لا يمكن الحفاظ على مشروع سياسي لأمدٍ طويل. وقد كان دعم إسرائيل يعتمد في الماضي حججاً أخلاقية وقيميّة، ورأيًاً عاماً مؤيداً، وهذا قد يبدو لنا مزيفاً ولكنه في الواقع كان عاملاً قويًا. أمّا اليوم فكل هذا ذاهب باتجاه التغير.

في الماضي كان بإمكان الشباب اليهودي الصهيوني أن يرأس حركات طلابية تقدمية في أرجاء العالم، أمّا اليوم، فإنهم منشغلون في الجامعات في الدفاع عن إسرائيل كنظام "أبارتهايد". وبالنسبة إليهم، هذه مهمة منتجة للخيبات وتعرّضهم للتآكل. في إسرائيل نفسها هنالك أغلبية تقول اليوم بصراحة "نريد دولة يهودية عنصرية نقية". وقد أصبح الكذب صعباً ومتعباً أكثر وأكثر لمن يريد الاستمرار في العيش تحت كنف كذبة أنه ليبرالي ومدافع عن إسرائيل من منطلق العدل.

ولا عجبَ أن إسرائيل اليوم تعرّف ما يسمى “نزع الشرعية” كتهديد استراتيجيّ. في الماضي عالجوا الموضوع بواسطة الـ"هَسْبَرا" الشرح، والدبلوماسية، والعلاقات الخارجية. أمّا اليوم فقد أصبح الموضوع في عُهدة أجهزة الأمن.

 القوى العظمى الصاعدة، كالهند والصين، وإن لم تنتهج سياسة أكثر أخلاقية، فانها على الأقل ليست ملتزمة تجاه إسرائيل بنفس مدى التزام الغرب، وليست رهينة مشاعر الذنب بسبب "الهولوكوست"، ولا تشكل فيها المسيحانية المسيحية عاملاً سياسياً. ومن هذه الناحية أيضاً تفقد إسرائيل مكانتها المركزية التي تمتعت بها حتى الآن.

إن زعزعة المكانة الجيو-سياسية لإسرائيل يجعل السنوات القادمة خطيرة جداً عليها، فهنالك خطر حقيقي في أن تتخذ الحكومة خطوات عدوانية في محاولة يائسة لوقف تدهور القوة التي اعتادت عليها في المحيط، كما يمكن أن يشتدّ القمع الداخلي، وتشكل القوانين المعادية للديمقراطية التي يجري سنّها في الكنيست مثالاً حياً على ذلك.

من جهة أخرى، يمكن لاشتداد الأزمة أن يحوّل مواقف كانت هامشية إلى حلّ واقعيّ يكون الناس على استعداد لسماعه. ولأجل تحقيق هذه الإمكانية، فالمطلوب هو تغيير ذهني باتجاه ما ينادي به من اعتادوا أن يكونوا طيلة الوقت في موقف الأقلية الراديكالية التي أقصِيَ صوتها. ويجب إيجاد أنماط العمل الملائمة لطرح الحلول على الجمهور الواسع كبديل واقعي.

إنّ حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين آخذ في التحوّل إلى موضوع ساخن ومدار نقاش في دوائر أكاديمية وفي الإعلام في أرجاء العالم. وقد وصف بابيه كيف أنه كواحد من المحاضرين المطلوبين في هذا الموضوع، لا يستطيع اليوم الاستجابة لكل الدعوات الموجّهة إليه. ولكن ما هو المطلوب لكي يتمكن مؤيدو الحل من طرحه كبديل واقعيّ أمام الجمهور؟ اذ يمكن المباشرة، كجزء أولي من الحل، بالتغلب على صعوبات العمل المشترك وبناء رؤية مشتركة للمركبين العربي الفلسطيني واليهودي، على أسس العودة والحرية والعدالة.

خلاصات حول الربيع العربيّ

تمحورت الندوة، كما قلنا، حول تحليل تأثير الربيع العربي على أزمة الصهيونية. لم نسمع الكثير عن “الغوريلا القابعة وسط الغرفة”، أي الربيع العربيّ نفسه؛ ولكن كان واضحاً التوجّه العام في كلام المؤرخ "إيلان بابيه" في ما يخصّ جوهر الربيع العربي. الحديث يدور عن صيرورة ديمقراطية يشارك فيها فئات سياسية كثيرة ومتنوعة، وفي مركزها حركة جماهيرية تُحدِث التغيير.

وقد تطرق بابيه للحاجة إلى العمل المشترك، الممكن في الواقع، بين اليسار العلماني، الذي ينتمي هو إليه ومعظم الجمهور الذي جاء لحضور الندوة،  وبين "الفئات" الإسلامية الفاعلة لأجل الديمقراطية. وقد جلب مثالاً على ذلك التعاون المثمر القائم في إنجلترا بين يسار علمانيّ جدًا وليبرالي في القضايا الاجتماعية وبين الحركات الإسلامية.

نقاش وإجابات على أسئلة الجمهور

في سياق الإجابة على أسئلة الحضور، أوضح المؤرخ "إيلان بابه" بعض النقاط الإضافية:

** كلا. ما كان بمقدور الفلسطينيين أن يمنعوا ما فعلته بهم الصهيونية. مشكلة الصهيونية كانت مجرّد وجود السكان العرب الفلسطينيين في البلاد التي قررت أن تقيم فيها دولتها، ولم تكن المشكلة موقف سياسي كهذا أو ذاك يرفعه هؤلاء السكان.

** في ما يخصّ اندماج الفلسطينيين مواطني إسرائيل في الدولة، مع الوقت أصبح هذا الاندماج أقل إمكاناً بسبب عنصرية إسرائيل، ولذلك محاولة الاندماج أصبحت أقل جاذبية. وقد تساءل بابيه لماذا ما زالت الأحزاب العربية تشارك في انتخابات الكنيست رغم انعدام قدرتها على التأثير الحقيقي عَبْرَ الكنيست، وعلى الرغم من الفائدة التي تجنيها إسرائيل من هذه المشاركة.

** في الربيع العربي تشارك فئات كثيرة ومختلفة، ولا توجد إمكانية حقيقية لتسلّط فئة واحدة. وعلى وجه الخصوص لا يوجد خطر تسلّط فئات إسلامية متطرفة على سوريا خلافاً لما يحاول النظام ترويجه بهدف تحصيل شرعية استمراره في الحكم، مع عدم الإدعاء بالنفي الكلي لأي من المخاوف المستقبلية.

** في الماضي، كان الشعار المركزي لليسار "دولة علمانية وديمقراطية"، أمّا اليوم فالشعار المركزي هو "دولة ديمقراطية واحدة". نعم، هذا تنازل يقدّمه اليسار العلماني، وهو يعكس الحاجة، في ظروف الربيع العربيّ، إلى التعاون مع فئات إسلامية في النضال لأجل الديمقراطية. يجب على اليسار أن ينظر نظرة نقديّة إلى تاريخه وإلى تاريخ المنطقة، وعليه أن يرى كل ما جرى فعله باسم اليسار وباسم العلمانية، وأن يفهم الحاجة اليوم إلى المرونة ومركزية مسألة الديمقراطية على جدول الأعمال السياسي في المنطقة.

--------------------

*يوآب حيفاوي: ناشط سياسي من حيفا المحتلة، وعضو حركة أبناء البلد الفلسطينية ومحرر مدونة حيفا الحرة.

نشر هذا الملخص بالتعاون مع مدونة حيفا الحرة ضمن توافق المشاع الإبداعي، حيث ينصب تركيز هذه المدونة على نشر الفكر والمعرفة القائمين على أساس تبني النضال في سبيل تحقيق العودة وبناء دولة ديمقراطية علمانية واحدة. ترجمته من النص العبري إلى العربية رجاء زعبي عمري، الملخص متوفر أيضا بالانجليزية واللغتين العربية والعبرية عبر مدونة حيفا الحرة freehaifaarabic.wordpress.com.