على طريق إيقاظ الحاسة السادسة قراءة في رواية "رام الله الشقراء"

إعداد هيئة التحرير

صدر في الأرض المحتلة مؤخراً عن منشورات دار الفيل-القدس رواية "رام الله الشقراء" للصحفي والكاتب عباد يحيى. الرواية مكتوبة على شكل رسائل تصف الواقع الذي ارتسم على شفاه مدينة رام الله منذ أن طغى " الشَّقار" على المظهر الحنطي لهذه المدينة، وتحولت من مركز الأرياف والاصطياف، إلى عاصمة الشقراوات و"الان جي اوز" في فلسطين. الرسائل تركز على "الغزو الأجنبي" للمدينة بدون ابداء أي اعتراض من الجهات الرسمية في المدينة، وانتقادها للتمييز الذي يمارسه أصحاب القرار لصالح البيض في البلد.   

 تنظر الرواية بشكل سردي وسوسيولوجي، الى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بمدينة رام الله؛ شوارعها، أبنيتها، أسواقها، أصغر مخيماتها، محلاتها التجارية، والمحو المتعمد لذاكرة المكان من خلال تلقيح المحلي بالمعولم. نصوص الرواية تضع الأصبع على الجرح: جرح الهوية والاغتراب.

الرواية تصف بشكل سردي التناقض الموجود في الحياة اليومية بين عامة الناس، من مثقفين، وفنانين، ويساريين، والآليات المعتمدة إلى تدجينهم وتنوريهم من خلال استدخال ثقافة المقاهي والمطاعم المترفة والمشرعة على امتداد الليل. تتناول الرواية حالة اللجوء من قبل مطاعم رام الله الى الترزق بالادب في محاولة لجلب الزبائن "المثقفين" مع الاستخدام المفرط لاشعار محمود درويش لاستغلال حب الناس لاعماله. حسب الرواية، أصبحت مقاومة الاحتلال وانتقاد الأوضاع وتغذية الرؤية التحليلية، لا يمكن لها أن تتم الا من خلال السهر مع الشقراوات، على جنبات الطرق، حتى ساعات الصباح الباكر، وان هذه المقاومة، غير مجدية الا من خلال الدعم والمشاريع التي تنفذها المؤسسات الدولية التي تحتضنها المدينة.

هي محاولة استطاع المؤلف من خلالها وصف ما يجري في المدينة بمسماه الحقيقي. رام الله الشقراء، تعتبر مرآة حادة في عكسها للضباب الذي يلف المدينة. يقول رئيس دائرة علم الاجتماع والإنسان في جامعة بيرزيت الدكتور أباهر السقا: " الرواية تعكس الحالة الهستيرية التي تعيشها رام الله بالمقارنة مع غزة السمراء أو الحمراء اليوم”. ويرى السقا أن “الرواية تحاكي تناقض المحلية والكزموبوليتية والتغيرات الاجتماعية العديدة في المدينة، وتحاكي الفضاءات المضادة وكل المظاهر الجديدة بطريقة رائعة سلسة، وكلنا نستحضر في هذه المدينة محليتنا وهي تغدو مع الأيام لا تشبهنا، وتتناول الرواية واحدة من أهم القضايا في رام الله والأكثر إثارة في الرواية وهي الحضور الأجنبي في المدينة، والرواية ترصد تفاصيل الحياة والعمارة وسياسات الهوية والعلاقة مع الشتات الفلسطيني، وعبّاد يحيى يمر على كل هذا الطيف بدءا بسلافوي جيجك وصولا لباعة القهوة في المدنية”.

اما علاء العزة، استاذ الانثروبولوجيا في جامعة بيرزيت فيقول ان الرواية “تشبه الحالة التي تتناولها، والنص يتميز بكون الراوي فيه ينطلق من زمانية مغايرة يحاكم الواقع أو الحاضر في ضوئها، ويمكن القول إن الرواية محاكمة للحاضر انطلاقا من زمن القصص الكبرى والقضايا الكبرى، والرواية تعالج العلاقة الأعقد بين الغرب والشرق، وتحديدا العلاقة الاستعمارية مع النص التي مازالت مستمرة في حيز رام الله، والشقار يتجاوز البعد الجنسي إلى مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسة الأمنية والحياة الاستهلاكية، وفي رام الله محاولة دؤوبة للقول والتمثيل بأننا نشبه الأجنبي الأبيض الأشقر والمدينة تحاول إثبات أنها تشبه الغرب، ولكل ما لهذا التمثيل من رمزية في العلاقة الاستعمارية ككل، ويمكن القول إن رام الله اليوم فيها الكثير من الوجوه السمراء والأقنعة البيضاء”.

يمكن القول أن رام الله الشقراء، قادرة على الإجابة أكثر في ما تتعرض له مما هو قائم ضمن تناقضات حركة الواقع الذي تنطق بتوصيفه ونقده. وبالبطل الإشكالي الحاضر المستتر، الباحث عن قيم أصلية في عالم متدهور بدوره وبوسائل لا يعوزها التدهور أيضا، ليتقي بصورة هذا الحضور ذي البأس الاعتراضي، الذي ينادي ل "متعب الهذال" من عند عبد الرحمن منيف: آن قم فكل الأمكنة "المتملحة" تُضجر/نا.

الرواية تعبير عن محاولة الخروج من جهنم، التي لا بد أن تتسبب بحروق، اذ تقف عند موضع نقد الذات، ليس فقط في معرض توصيف عللها، وانما بمعنى الوقوف على المنشأ الذاتي والموضوعي لهذه العلل. وجاء صدور النص في الأرض المحتلة مكتملاً، من ناحية ما يطرق بابه من حركة الواقع الى جانب رحلة اصدارها، عن دار الفيل " في القدس" تحديداً. في الوقت الذي تغيب فيه صورة واضحة من مشهد الحضور السياسي لخارطة التراب الذي تتناوله بالخطاب؛ لتبدد بذلك ما تبقى من غيمة الوعي، حول ماهية فلسطين. تهبط الرواية لتعري اللحاء الأخير عن مقاولة استنزفت قدراتها الناعمة في اجتلاب الشرعية وتمويلها. ولا بد ان ينظر لحنق السمراوات في مقابل جملة ما يعتمل وعي الإشتغال بالسياسة والفكر اليومي في الأرض المحتلة. فان حالة "الأكثر من" عدم الرضى تؤشر على سلاسل النمور الورقية المتدلية من سماء الأمكنة الشقراء"، كذلك التوصيف الجارح لمشهد المركز الثقافي الفرنسي والحديث عن مذكرات المترجم فيه.

في الجهة المقابلة، فان احد الانتقادات التي يمكن توجيهها الى الرواية، انها لم تغطِ حجم المواقف الاعتراضية على ما يدور في المدينة. لكن يمكن اعتبار ان رسائل الرواية بحد ذاتها، إنما تقف في الخندق الاعتراضي، على الرغم ان اللقطة الختامية شبه المفتوحة، تبقي الاحتمالات قائمة، وهو ما يقترب اكثر الى طابع القفلات السينمائية المواربة في اسقاط الضوء على شريط المدينة. وبمعنى آخر، اراد الكاتب من خلال النصوص ان يعلق على مرحلة سيئة من الواقع الفلسطيني، مع الاشارة الى عدم رضى المواطن العاديللأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجارية.