بقلم: د. منار مخول*

لا يمكن أن تكون هناك “ثورة فلسطينية” ما لم تشمل جميع الفلسطينيين ضمن خطاب سياسي بديل، حسبه توخي حل عادل  لقضية الحقوق الفلسطينية، إذ يجب أن نُشمل جميعاً - في الخطاب والحل، وفي اتّخاذ القرار، كما في رسم معالم هذا الحل.

يتذكّر الأمريكيون، كلّما تواردت أحداث الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ إلى الذكر، أين كانوا وماذا فعلوا حين سمعوا أوّلاً عن الهجوم الطائر على الولايات المتّحدة، تعبيراً عن وقعِهِ الدراميّ على ذاكرتهم الجماعيّة. في الحقيقة كثيرنا يشاركهم هذه الذاكرة لهول أحداث ذالك اليوم. لا أظنني أخطئ إن قلت أن للعرب ذاكرة جماعية مشابهة بقوّتها، ليس بفعل هول الحدث، إنّما بسبب سعادته. أتذكّر جيّداً أنّي كُنت أَتأوّه وجعاً على كرسيّ طبيب الأسنان، محاولاً يائساً أن أشاهد مباشرةً نهاية عهد حسني مبارك في مصر على الجزيرة الفضائية عبر ما اقتني من تقنية هاتفية نقالة. كان خَلْع مبارك، وزين العابدين من قبلهِ، كقلع الوَرَم من أفواهنا جميعاً، وبداية زمن جديد طال انتظارنا له. فاتحة أمل لجميع العرب. "ما عدا الفلسطينيين".

لمْ أظنُّ يوماً أن “الربيع العربي” سيشمل الفلسطينيين، مثلما أمل البعض من زملائي وأبناء شعبي. كان أملهم مبنيّ على ظنّهم، الخاطئ في نظري، أن رياح التغيير ستهب في كلّ الاتجاهات. لم يَثُر العرب لكي يغيّروا فحسب، إنما ثاروا ليحدثوا نقلةً نوعيةً، جوهرية، في طبيعة أنظمة سياسية سلبتهم حقوقهم. ثارت الشعوب العربية ضد أنظمة سياسية هضمت حقّها في إتّخاذ القرار السّياسي في دُوَلهم، في تقرير مصيرهم ودورهم بين الشعوب. لقد كانوا، وما زال أكثرهم، أسرى أنظمتهم في بيوتهم - سجونهم.

أما المظاهرات الفلسطينية في أرجاء الضفة الغربية خلال الصيف الفائت، فلم تعبّر عن ثورة حقيقية، هذا أنّها لم تستهدف بشكل مباشر النظام السياسي الجائر الذي يسلب الفلسطينيين حقوقهم: اتفاقية أوسلو كمنظومة سياسية التي تُمَأسِس تفكيك وتهجير الشعب الفلسطيني.لم يثر الفلسطينيون حتى الآن ضد النظام السياسي-الأيديولوجي الذي يمنعهم من تقرير مصيرهم: نظام الفصل العنصري الصهيوني. وكذلك المظاهرات ضد غلاء المعيشة في الضفة الغربية كانت ثورة جزء من الشعب “المفصول” ضد أحد أعراض هذا النظام، بدون مشاركة باقي “الفصائل”. وهنا “فصائل” لا تعني الانقسام القائم بين فتح وحماس، إنّما تشير إلى باقي أجزاء الشعب الفلسطيني: اللاجئين وذوي المواطنة الإسرائيلية.

نجحت، ما تعرف بـ “عملية السلام” في فرض خطاب يحدد القضية الفلسطينية في حدود ١٩٦٧ أو شظايا منها، مُقصياً بذلك أغلبية الفلسطينيين الساحقة: اللاجئين والفلسطينيين من مواطني إسرائيل. تجزئة الفلسطينيين أدّت أيضا إلى تفكيك الخطاب الفلسطيني إلى خطابات محليّة تطالب بحقوق محليّة. هكذا تحوّل النضال الفلسطيني في الأرض المحتلة عام ١٩٦٧ إلى نضال ضد غلاء أسعار الوقود والدجاج. هكذا تمخّض الحراك السياسي في “الداخل”، لعقود طويلة، بخطاب يطالب بالمساواة - قابلاً ضمنياً، بقبول شروط المواطنة الإسرائيلية، مبنى الفصل الأيديولوجي-السياسي. وهكذا أيضاً انشغل اللاجئون في صراعات محليّة، في الدّول المضيفة، بعيدة عن تحقيق مبدأ حقهم بالعودة كجزء لا يتجزأ من أي حل سياسي في فلسطين.

ليس الهدف في هذا التعقيب إلقاء اللّوم ضد جهة ما، أو فصيل-جغرافي فلسطيني آخر. إنما كانت لخيارات الشعب الفلسطيني خلفيات تاريخية وسياسية خاصّة يتوجّب علينا فهم حيثياتها في نطاق البحث التاريخي للقضية. ومن هنا نصرح بأن عملنا في “بديل”  يركز بشكل خاص على رصد ودراسة معالم النكبة المستمرة من منطلق قانوني-حقوقي شامل. بناءً عليه؛ فإن النكبة لم تنته مع تهجير أغلبية الفلسطينيين في ١٩٤٨، إنّما تستمر بها إسرائيل منذ ذلك الحين مستخدمة آليات مختلفة. تستمر مساعي إسرائيل الصهيونية إلى تفريغ فلسطين منّا إلى يومنا هذا، على امتداد الخط من الجليل إلى النقب، من القدس إلى الضفة الغربية، وقطاع غزّة. هذه هي قضيتنا، وفيها يجب أن نركّز جهودنا.

نمرّ في حقبة مفصلية من حاضر الشرق الأوسط، والرسالة الأساسية التي ترسلها لنا الشعوب العربية هي أن المشاكل لا بدّ أن تُحلّ من جذورها. لذلك لن يدوم أي حلّ سياسي إن لم يشملنا جميعاً، وإن لم نكن كلّنا جميعاً جزءاً فعّالاً في رسم معالمه. يرى البعض في هذا “حُلماً غير عملي، أو براغماتي، في الظروف السياسية الراهنة”. بيد أن هذا الطرح لا يخلو من بعض الصحّة، لكنه يتجاهل أيضاً أن البراغماتية هذه، المفروضة على الخطاب الفلسطيني، تَدفن، لا محالة، حقوق الأكثرية التي لا صوت لها في تقرير مصير نفسها. يحقّ لنا، كما لجميع الشعوب، أن نقرر مصيرنا بناءً على حقوقنا. وهناك الكثير من المؤشّرات التي تدعو للتفاؤل.

يعبّر الكثيرون من الفلسطينيين، العرب والأجانب، الذين أعرفهم في داخل وخارج فلسطين التاريخية عن آراء مشابهة، وعن وعيّ متراكم بعدم إمكانية إيجاد حلّ عادل لقضيتنا من خلال الخطاب السياسي القائم. يدعم هذه “العيّنة” من الآراء مسحٌ أوسع لتوجهات الشباب الفلسطيني السياسية في إسرائيل، الأرض المحتلة عام ١٩٦٧، الأردن، لبنان، وسوريا. تُظهر ورقة العمل، التي يعمل بديل على نشرها قريباً، أن الشباب الفلسطيني الذي يعيش في ظروف سياسية واجتماعية مختلفة يصل إلى استنتاجات مماثلة إلى حد كبير بكل ما يتعلّق برؤياهم الشاملة لحل القضية الفلسطينية. إن ما يجمع ويوحّد الفلسطينيين في كل مكان هي النكبة والاغتراب، وإن معالجة هاتين لم يَعُد ممكناً أن يكون “محليّاً” - إنّما فلسطينياً باتساع معناه الشامل.

لا يمكن للثورة الفلسطينية أن تكون مشابهةً بشكلها للثورات العربية. ونحن بالطبع لا نريد التقليد وحسب. إذا كان لا بدّ من أن تكون هناك ثورة فلسطينية، فعليها أن تشابه الثورات العربية بمضمونها - ذلك الهادف لإحداث تغيير جوهريّ في نظام سياسي يمنعهم من تقرير مصيرهم. لذلك فإن ثورة فلسطينية نوعيّة تبدأ بتبنّي رؤية شاملة مبنيّة على هدف تحقيق حقوق الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين. أما الآليات الثورية لهذه الثورة، فقرارها العملي ملك من يتحركون باتجاه إحقاق الحقوق.

---------------------

*د.منار مخول: حائز على درجة الدكتوراة في الادب الفلسطيني داخل الخط الخضر من جامعة كامبريدج، منسق التشبيك والمناصرة في مركز بديل.