أردت إعلام أقدارنا أننا سنعود بعد دقائق: قراءة في رواية (الدرس الأخير) للكاتب الشاب أيسر الصيفي

بقلم: عيسى قراقع*

الرواية الأولى لشاب لاجئ، ولد في المخيم، عاش تحت الصفيح، هويته كرت الإعاشة وسلة من الطحين وبضع علب من السردين، فامتلأ بأسئلة البؤس خلال البحث عن نصوص إنسانيته، وعن بيته الأول الذي حملته الجرافات الإسرائيلية ونقلته إلى المخيم بلا شجر وبوابة وبئر ماء.

شاب ينفجر في الكلمات ويرحل من خيمة الواقع إلى خيمة الفكرة، محاولا أن يقيم على أرض هويته الخاصة، ولا يملك من الأدوات سوى أن يرسم الموت في أكثر من مكان، ويخلق الحياة في أكثر من مكان حتى يحقق ذاته المنشودة صارخا: إننا محكوم علينا بالحياة قبل أن يحكم علينا بالموت.

الرواية التي خرجت عن المألوف فكرا وفلسفة وإبداعا، تشدك من القاع إلى القاع، ولا تصعد إلى الأعلى دون أن تسأل نفسك من أنا في هذه الحياة التي لم تكن سوى وثبة واحدة نحو اتجاه ما.

المكان هو مخيم الدهيشة، بقعة تلاق سوداء خارجة عن النص المألوف بطبيعة الحياة لتشكل بعدها حالة لجوء. انطلقت أفكار الكاتب بين الماضي والحاضر، ذكرى تولد أخرى وتكبر، أسماء هنا وأسماء هناك بين الحياة والموت، أوراق ولوحات في هذا الجسد الفلسطيني الشاذ الذي يسمى مخيم.

للمخيم جاذبية مختلفة عند أيسر الصيفي، رائحة أخرى، كأنه الخندق الأخير، ففي الاجتياحات الإسرائيلية للضفة الغربية عام 2002، يصف المخيم بالقلب النابض لكل الفدائيين والمقاتلين من كل المناطق، عدة ألوان وعدة أطياف وديانات اتحدت تحت بندقية واحدة وتحت قسم واحد وهو المقاومة، قائلا: فشوارع المخيم تشكل متاهة موت لغير أهلها، وحضنا دافئا لكل من اتخذ من نفسه ترسا لحماية المخيم.

رائحة الجوع البشري المخيفة، حيث الفقر والفقراء والاستغلال والتمييز والقهر اليومي، يرسم أيسر الصيفي لوحته الفكرية في رواية تتحدث عن واقع يمتد ويتسع من خلال شخوص يتمردون على أن يكونوا أصفارا أو أدوات في لعبة شطرنج، مشحونين بالأمل والحب، يبحثون عن مكان حرّ وليس منفضة للتاريخ، ويسألون بوجع عن النهاية في هذه المتناقضات.

مجموعة أصدقاء خرجوا من السجن، لفحهم الجوع ومشاهد المجنزرات والقتل والبرد والخوف في أزقة المخيم، يتناثرون بين الظلام والغربة، ولم يجمعهم سوى كونهم ضحايا؛ يبحثون عمن سفك دمهم ومستقبلهم، وقرروا أن يؤرخوا ما كتبه الكبار حتى لا يسرقهم زمن النسيان، لعل في ذلك شفاء لهم وللواقع.

رواية أيسر هي سيرة جمعية لشعب لا يزال يبحث عن ذاته وهويته، لا يزال محاصرا في خيمة لجوء، ينتظر أن يقع الظالم في حفر مكائده، ولا تذهب وتضيع في الهواء دماء من رصوا أرواحهم جسرا للقاء وطن أفضل.

الكاتب الشاب أيسر الصيفي يؤسس للعلاقة الجدلية بين السجن والحرية في شخوص جاءت من زمن النكبة بالذاكرة، وشخوص ولدت على جرح النكبة حالمين، فوحد الزمن بصوره المتكررة ومشاهده المتوالدة مؤمنا أن الفقراء وحدهم القادرين على صنع الأشياء من اللاأشياء، رافضا أن يتحول حق العودة إلى مجرد ذكريات أو اختبارات وأساطير في التاريخ.

تداعيات إنسانية بين انتفاضتين وفي زمن الاجتياحات الإسرائيلية تولد قصة حب مختلفة مع الموت في صراخ الكاتب وهو يقول: اترك للموت فرصة امتلاك المستقبل وعش الحاضر، وفي خضم التداعيات يبرز دور الثقافة في خلق سقف لهذه الرواية التي تتألق إلى حدّ الانفجار.

السجن واللجوء والفقر والحب المقتول، ولوحة تتسع لشعب لا يزال تحت سياط السجان، هي الأركان الخمس لرواية ذات بلاغة عميقة وحكمة وفلسفة موجعة للمعذبين الذين تلقوا الدروس على أجسادهم، ولا يزال الدرس الأخير مفتوحا على الغموض.

رواية تقاتل من أجل الحرية والعدالة والمساواة والمستقبل، تسقي وردة الحياة في تلك الجثث المرسومة بدم الماضي، كي ننبش من قبور التاريخ نبتة التغيير كما يقول الكاتب.

رواية (الدرس الأخير) ترفض أن تبيع الحياة - اللوحة- بكل ما فيها من أسرار مدفونة وذكريات وأصابع تشير إلى الغد والبعيد، ترفض أن تكون عبدا لأحد، لتبقى سيدة ذاتها كلمات وثقافة ورؤية ويقين حالمين.

أن يخط شاب لاجئ بعد 64 عاما على نكبة الشعب الفلسطيني روايته في هذا النشيد الملحمي، وهذا الإيقاع الموسيقي الموجع في الكلمات، وهذا الجمال اللغوي التأملي، فهذا يعني أنه لم يقع في فخ لعبة المكان وسطوة الغياب واحتمالات النسيان قائلا: لا زالت الطريق طويلة، وأنفاسنا كذلك، تكفينا كي نعبر دوامات الزمن بكل الاتجاهات، كي نعيد كتابة التاريخ بصدق، أو نكتب تاريخا جديدا يعطي الحق للفقير بالتمرد على فقره، وللميت بوضع ما أمكنه من أحرف وصيته الأخيرة.

شكرا لك أيسر... لقد أتعبتني وأنت تغلق النهاية على السجن والاستشهاد ولا زلت تبتسم للاختلاف بين الفصول صامدا تحت أمطار الحقائق وأنت تهتف: لا زال لدينا متسع من الحياة لملء أوعية أقدارنا...

---------
*عيسى قراقع: وزير شؤون الأسرى والمحررين، كاتب وأديب، عضو الجمعية العامة لمركز بديل.