أثر الانقسام على الوعي والانتماء الوطني العام

بقلم: تيسير محيسن*

تشير العديد من المعطيات إلى أن المصالحة الفلسطينية، وعلى الرغم من كل ما أنجز على طريق تحقيقها حتى الآن، أنها لم تعد قريبة المنال. بعد سنوات تبدو الأسباب التي أدت للانقسام قد اندثرت وزال أثرها، إلا أنه سرعان ما حل مكانها منظومة معقدة من المحرضات على دوامه، والمبررات لعدم العودة عنه أو تجاوزه، ما يمكن تسميته بلغة الاقتصاد السياسي "منطق الانقسام". الاتجاه الغالب لدى طرفي الانقسام يميل نحو التكريس والتطبيع مع الواقع وإدارته على نحو من الأنحاء. وإذا كان شكل من أشكال المصالحة السياسية (أقرب إلى تطبيع العلاقات) قد تحقق بالتقبيل والمصافحة واللقاءات العلنية والابتسامات العريضة، غير أن ما بقي على الأرض فعلاً هو بالضبط ما انطوت عليه خطة شارون: دوام الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتخليق وضع سياسي فلسطيني يدير هذا الفصل ويتكيف معه، ما يجحف في نهاية المطاف، بفرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيادية.

وإذا كان الوعي المأزوم والمهزوم هو ما مهد للانقسام وسوغه وبرره، فإن منطق الانقسام أو اقتصاده السياسي، مع مرور الزمن، بات ينتج بدوره وعياً مشروخاً مشوهاً، وخصوصاً أن التكيف معه بات سمة غالبة عند الجميع. اُستدخل الانقسام ومنطقه الأعوج ضمن منظومات السلوك والتفكير لدى الفلسطينيين؛ تارة بوصفه حجةَ المنقسمين بعضهم على بعض في أوان النقد والمساءلة في قضايا الناس، وتارة ذريعة للقعود والكسل والعجز في قضايا الوطن. ودائماً، بوصفه موضوعاً ساخناً لإدارة مشتركة ولئيمة من قبل الطرفين على النحو الذي يظهرهما وكأنهما يقومان بواجباتهما تجاه الناس وتجاه الوطن

وقع الانقسام - بغض النظر عن أسبابه المباشرة والمدعاة- في سياق سياسي وتاريخي معقد اتسم:
أولاً، بهشاشة الهوية أو عدم نضجها واكتمالها؛ وثانياً، باختلال التوازن الاجتماعي بين مكونات النظام والمجتمع. هذا علاوة على الفصل الجغرافي، والاستقطاب السياسي الحاد، والانكشاف الهائل تجاه الداخل والخارج. واليوم يفاقم الانقسام - بغض الطرف عن مبررات استمراره المعلنة والمدعاة- أزمة الهوية والوعي، واختلال البنيان الاجتماعي، وتعميق الفصل وتكريسه، وزيف السياسة وبطلان فعالياتها، والاحباط والعجز والتسليم القدري.

وفي واقع الأمر، فإن الفلسطينيين يواجهون، منذ أكثر من قرن، ذات المعضلة، أي معضلة تشكيل وبناء الأمة، بما في ذلك تحرير أرضهم من غاصبها، وتعزيز صمود من بقي منهم على ما بقي منها، وبعث شخصيتهم الوطنية وتطوير هويتهم، وانتزاع حقهم في تقرير مصيرهم، وعودة من هُجر منهم كرهاً وغصباً، أي صيرورتهم كمواطنين يدينون بالولاء الوطني لدولة خاصة بهم فوق تراب وطنهم (إقليمهم الجغرافي). غير أنهم، في جميع مراحل كفاحهم الوطني، تعرضوا إلى سياسات وممارسات استهدفت تشتيت مجتمعهم، وتشظية هويتهم الوطنية والحيلولة دون نيل استقلالهم وسيادتهم في دولة مستقلة. وإذا كان من الصعب إنكار مسؤوليتهم عن بعض ما لحق بهم قبل الانقسام بعقود، غير أن الانقسام، سجل لأول مرة في تاريخهم "مساهمة نوعية متميزة" في استهداف تدمير الذات وإضعاف القدرات وتبرير سياسات الأعداء وممارستهم.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالهوية وتطورها، فقد كان الانتماء الفلسطيني متأرجحاً، طوال مسيرة الكفاح، تحت ثقل الحركات والأيدلوجيات المختلفة من جهة، وتحت وطأة واقع التجزئة والتدخل الإقليمي من جهة ثانية، فلم يتبن الفلسطينيون فكرة الدولة الوطنية مبكراً، وأفرطوا في الاعتماد على المحيط، ودائماً بقيت مسألة الإقليم محل خلاف وجدل عميقين بينهم. ومع تنامي تأثير الاتجاه الإسلامي وصعوده البارز، أخذت أزمة الهوية الفلسطينية أبعاداً أخرى، من بينها تأجيج الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي، وصولاً إلى لحظة الانقسام، تعبيراً عن فشل النظام في التحول وإعادة تعريف مكوناته ووظائفه في سياق متغير. فشلت السلطة الفلسطينية في تحقيق الاندماج السياسي والوطني لأسباب تتعلق بطبيعتها وقيودها وبالطبع ممارساتها، بينما نجح الاتجاه الاسلامي في طرح المكون الإسلامي للهوية وإبرازه على حساب المكونات الأخرى. مع احتدام الصراع على السيطرة، جرى تصعيد خطاب "المؤامرة" من قبل الأطراف المتصارعة، وسرعان ما جرى افتعال جبهة مواجهة، مفردة وحادة، على قاعدة إطلاقية أخلاقية، وعلى أساس تحديدات تعسفية للهوية بمنطق الـ (نحن/هم)، يتم عبرها مَفصلة القضايا المركزية ضمن منطق الانقسام وتبرير تضييق مساحة التنوع والتعدد.

أما اليوم، وبعد مرور سنوات على الانقسام ومأسسته ومظاهر التكيف السلبي معه ودينامياته المختلفة، لا يصعب ملاحظة مدى ما لحق بالهوية الفلسطينية، ومرتكزاتها السياسية والثقافية، من ضرر وأذى بالغ: في شروطها الثلاثة: السياسي (ضعف الاندماج السياسي)، والاجتماعي (اختلال التوازن الاجتماعي)، والديموقراطي (تراجع الحس المدني والمواطنة).

(1) في الشرط السياسي: من بين أوجه الفشل التي مُني بها مشروع السلطة الفلسطينية، بوصفها خطوة أو مرحلة على طريق بناء الدولة، فشلها الذريع في عمليات الاندماج السياسي، الذي لا يعني فقط بناء مؤسسات الدولة أو شبه الدولة. جاء الانقسام ليكرس نتائج هذا الفشل من ناحية، وليضيف عوامل أخرى تحبط أي عمليات إندماج. في زحمة حروب "الانقسام" أزيحت الرموز الوطنية جانباً، وجرى الحيلولة دون استيعابها لتبقى مثلما كانت منذ انطلاقة الثورة المعاصرة، بمثابة منظومة تفسيرية أو أيديولوجيا وطنية، تسمح بإمكانية الاختلاف والصراع دون أن يهدد هذا الأمر استقرار النظام ككل. اُستبدلت المنظومة باستدعاء وتوظيف الولاءات العائلية والجهوية والفصائلية على حساب عقلنة السلطة. كما ساهم منطق الانقسام وحاجة القائمين على إدارته إلى تبرير استمراره، في تعزيز عمليات التعبئة على أسس ضيقة، مكرساً الفصل الجغرافي والتفكك الإقليمي، ومولداً شروخاً وتشققات مجتمعية، فاقم من تأثيرها الاستخدام المباشر للمفردات الدينية الاطلاقية، وهو ما حرض الفلسطينيين على الاغتراب أكثر من انخراطهم الجماعي والفعال في عمليات التجديد المشترك للهوية (إعادة التحديد والتعريف). فهذا النشاط، بوصفه سياسياً من حيث الطبيعة، يعتبر بمثابة تهديد للهوية المتشكلة فعلاً. لم يعد مناصرو الانقسام والمستفيدون من استمراره يرون أنفسهم جميعاً في "القارب ذاته"، بلغة "فرانز فانون"، وأن مصائرهم مرتبطة بعضها ببعض، وأنهم يشكلون جزءاً من شيء أكبر من التنظيم أو الجهة. ولأن الهوية الوطنية تتفتح وتزدهر إما في ظل دولة تتبنى سياسات تطويرية، وإما في ظل كفاح وطني من أجل هذه الدولة، فقد أجهز الانقسام على فرص تطوير الهوية المشتركة بتغييبه اعتبارات التحرر الوطني واسقاط مهماته عن الأجندة، في وقت اشتدت فيه وطأة الاحتلال. وقع الفلسطينيون في وهم الصراع على الهوية، حتى أن بعض الفعاليات الوطنية المشتركة غالباً ما تُحبط لأسباب تعزى للانقسام ومنطقه المقلوب.

(2) أخل الانقسام بالتوازن الاجتماعي، ويظهر ذلك في كل ما يمّكن مجتمع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من عمليات التكيف والتوافق، حيث أضعف الانقسام قدرة المجتمع والنظام على التحكم في أسباب التوتر والاحتقان والصراع الداخلي، ومواجهة التحديات والمتغيرات الخارجية ومدى القابلية الاجتماعية للتأقلم والتفاعل معها. شملت عملية الاخلال المرتكزات التالية للتوازن: الظروف المادية الملائمة، أسباب التحرر من الخوف، الشعور بالأمن، سيادة قيم التسامح والسلم، التواصل الإيجابي وشبكات التفاعل، الاندماج الاجتماعي والمساواة الاجتماعية. وقد تفاقمت ديناميات التفرقة والتجزئة وإضعاف نوعية الحياة والمجتمع بمؤشراتها المختلفة (العدالة والإنصاف، المسؤولية الاجتماعية، الانتماء، الاندماج،..)، وفي غضون ذلك، تعمقت حدة التفاوت والاختلال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث ينفذ في الضفة الغربية خطة إصلاح وتنمية وبناء مؤسسات، وفي غزة تُدار برامج المساعدة الإنسانية واقتصاد الكفاف، هنا استثمار ومؤتمرات اقتصادية وبرامج تطويرية، وهناك تجارة أنفاق وأزمات وقود وكهرباء. إن من شأن ذلك أن يولد واقعين اجتماعيين مختلفين مع مرور الزمن، سيُحدث بالضرورة مزيداً من الشروخ في الهوية والوعي، باختلاف الأجندات والهموم والقضايا وأنماط التعبئة.

إن التدقيق المعمق في مخرجات أداء القائمين على إدارة الانقسام، هنا وهناك، من حيث تعميق التفاوت والانكشاف والإقصاء الاجتماعي وتدني مستوى الرفاه الاجتماعي، واشتداد الهجمة على الحريات والحقوق، وانتشار الفساد وخصوصاً المحاباة الفئوية، يظهر بصورة لا تقبل الشك أن هذا الأداء يهدف – بقصد أو بغير قصد- إلى تعزيز الميل نحو التفكيك، والتفسخ المجتمعي. واللافت أن قوى الانقسام ذاتها تبادر إلى استغلال هذا الواقع المأزوم جراء ممارساتها في عمليات التجييش المتبادل بتوظيف مشاعر السخط والإحباط واليأس في أوساط غالبية الجمهور، وإضفاء طابع أيديولوجي وسياسي على عمليات الفرز الاجتماعية.

ومثلما يرى علماء الاجتماع أن إعادة تعريف الهوية وتحديدها بصورة مشتركة، يعتبر أمراً بالغ الأهمية للشعور بالأمن والرفاه النفسي والاجتماعي، فإن القلق وتدني مستوى الرفاهية، من شأنه التعجيل بتمزيق الهوية وإضعاف الانتماء العام. وديناميات الانقسام (من قبيل الاعتقال السياسي والتحريض الاعلامي وحرف الأجندات ومفصلة القضايا المركزية)، يضرب عصفورين بحجر واحد: يدفع بأسباب إضافية ودائمة للقلق وتوتر الشخصية، ويعيد إنتاج كل ما من شأنه التقليل من مستوى الرفاه.

(3) شوه الانقسام جدلية الاستمرار والتغير المرتبطة بالهوية، أي عمليات بناء الإجماع عبر الديموقراطية. فالهوية بناء وهمي، تصور جماعة عن ذاتها وعن العالم حولها. وهي بوصفها كذلك، تشهد إعادة تعريف وتحديد ضمن سياقات متغيرة. فبعدما فشلت القوى المتصارعة في إعادة بناء سياسي تعددي وتشاركي، لجأت للانتقال من الاقتسام إلى الانقسام، ما أصاب فكرة المواطنة في الصميم، من حيث تكبيل الحريات وقمع الحقوق، وتعطيل دور المجلس التشريعي، واللجوء للعنف. ولم يتوقف الامر عند ذلك، بل تجاوزه في امعان قوى الانقسام في حقن "جبهة المواجهة" بموضوعات الخلاف والتعارض، مرتكزة إلى عناصر في الثقافة الشعبوية السائدة، وموظفة الفضاء الرمزي السياسي والتاريخي بما لا يقبل التفاوض على قاعدة احترام التنوع والتعدد الاجتماعي والسياسي.

إلى جانب ذلك، فاقم الانقسام تناقضات الشخصية الحقيقية-حامل الهوية- فأفقدها استقرارها وتوازنها ووضوح أهدافها، ووسع الفجوة بين واقع الفلسطينيين المادي، وبين تصورهم لهويتهم، ففقدوا القدرة على الوعي بالذات والوعي بالواقع. وبانقسامهم، خاطر الفلسطينيون بفرصة إعادة بناء عقدهم الاجتماعي الجديد، استناداً على تعزيز المشاركة الواسعة. الانقسام يقضي تدريجياً على أي أثر للروح العمومية، للوعي الجمعي والإرادة العامة، إذ تجري عملية منهجية منظمة لإفراغ الحيز العام (الحياة السياسية والاجتماعية) من مضمونها الفعلي. إذ يصعب القول أن ثمة حيز عام يشهد صراعاً بين أفكار وبرامج سياسية وحركات اجتماعية، ولعل التعديات الصارخة والقيود الجائرة على مساحة الفعل الاجتماعي والسياسي، من ملاحقة لمنظمات المجتمع المدني، وقمع تعبيرات المعارضة السياسية والتحركات الجماهيرية كما حدث في أذار 2011، لخير دليل على ذلك.

في ضوء ما تم الاشارة إليه، يمكن القول أنه إذا كانت المصافحة ضرورية كمدخل لتجاوز هذا الانقسام "الأسود" بلغة القائمين على إدارته، فإن الرد الحقيقي عليه لا يكون إلا بمصالحة تنطوي على فكرة إعادة بناء الإجماع، على مستوى الوعي الوطني وتعزيز الانتماء، الكيانية السياسية والمؤسساتية، الاتفاق على القضايا المركزية -ثوابت النظام- والتطلعات الوطنية، حيث يعبر عنها برؤية وإستراتيجية موحدة. مصالحة تحول العداء غير المبرر إلى صراع مرغوب، تحكمه قواعد الديموقراطية وأنظمتها، وتقتضيه دواعي الصمود والمواجهة.

--------------

* تيسير محيسن: باحث وكاتب فلسطيني، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، عضو هيئة عامة في مركز بديل.