منظمة التحرير الفلسطينية: إعادة البناء والدمقرطة

بقلم: نعيم الأشهب*

ھل نتجنّى على الحقيقة اذا قلنا أن استمرار الوضع الحالي، لا يبشر بتحقيق هذا الطموح في وقت قريب؟ اذً كيف يمكن الحديث عن إعادة بناء المنظمة ودمقرطتها في ظل الانقسام الحاصل؟ وإذا كنا هنا لسنا بصدد تحديد من المسؤول عن هذا الانقسام وعن استمراره؛ لكن لا يمكننا أن نتجاهل بأن هناك قوى في كلا طرفي الانقسام تستفيد من استمراره، وان بنسب متفاوتة. أما المستفيد الأول من وقوع الانقسام واستمراره فهو نظام الاحتلال الإسرائيلي دون أدنى شك.

فالرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس يعتبر أن أھم انجازات إسرائيل تكمن في تحقيق قيام الدولة في العام 1948، وحرب حزيران 1967والانقسام الفلسطيني؛ بينما رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياھو، لا يكف عن إطلاق التهديدات كلما جرى الحديث عن إمكانية المصالحة الفلسطينية وتحقيق الوحدة. فإذا كانت كل من حماس وفتح تتحمّل مسؤولية استمرار هذا الانقسام والضرر الجسيم الناجم عنه، فان التنظيمات الفلسطينية الأخرى، وخاصة اليسارية منها، غير معفية من هذه المسؤولية،؛هذا بالنظر لتقاعسها وعجزها عن تعبئة وتنظيم الشارع الفلسطيني، المعارض بغالبيته الساحقة لهذا الانقسام واستمراره.

بمعنى آخر، هذا الانقسام لا يمثّل فقط العقبة الأساسية في وجه إعادة بناء منظمة التحرير، بل وينفي سلفا، إمكانية دمقرطتها. فالانقسام، في آخر تحليل، ھو عملية نفي للآخر، وإنكار للاختلاف، في الرأي والاجتهاد، في اطار الوحدة الوطنية، والتي هي ركن أولي للديموقراطية. ومن يوم لآخر، وأمام سراب الوحدة، الذي يقترب ويبتعد في حلقة شيطانية لا يبدو لها من نهاية في الأفق؛ تزداد القناعة بأن تحقيق هذه المهام المصيرية في حياة الحركة الوطنية الفلسطينية منوط بانتفاضة جماھيرية عارمة، قادرة على كسر إرادة المعرقلين لاستعادة الوحدة والمنتفعين من الانقسام واستمراره، سواء من داخل الساحة الفلسطينية أو من خارجها. ومن الأھمية بمكان، أن لا يقتصر مثل هذا الحراك الشعبي الفلسطيني على سكان الأرض المحتلة فقط، بل وبالمشاركة الفاعلة من فلسطينيي الشتات .

لكن محنة منظمة التحرير أقدم من الانقسام، آخذين في الحسبان أن حماس لم تكن يوما جزءا منها. ومن المفارقة أن أقسى الضربات لمكانة ونفوذ منظمة التحرير اقترنت بالتوقيع باسمها على اتفاق أوسلو. فمنذ تلك اللحظة توهمت القيادة الفلسطينية أن الدولة الفلسطينية المستقلة قد أصبحت مضمونة وفي "الجيبوبالتالي، فان منظمة التحرير التي نشأت، تاريخيا، لقيادة نضال الشعب الفلسطيني لتحقيق ھذا الهدف، أي تحقيق تصفية الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، لم يعد لبقائها من ضرورة! وهنا تحوّل الاهتمام، كل الاهتمام نحو السلطة الوليدة.

وساد الوهم بأن التركيز على هذه السلطة وتحويل كل الصلاحيات لها سيحوّلها الى دولة بحكم الأمر الواقع، ويرغم الاحتلال الإسرائيلي على التسليم بذلك؛ مع تجاھل كامل لحقائق التاريخ بأن الأمر الواقع يفرضه الطرف القوي على الضعيف وليس العكس .

أما هذه السلطة التي جرى اعتبارها المكسب الوطني الأساسي، وجرى تضخيمها وتوسيعها، بحيث تجاوز عدد منتسبيها على المئة والسبعين ألفا، فقد تحوّلت عمليا إلى انشوطة بيد الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، والممول الرئيسي - في الوقت ذاته - لميزانية ھذه السلطة، تضغط بها على عنق الجانب الفلسطيني كلما حاول هذا الأخير التحرك خارج الخطوط التي تقررھا هذه الدول، بينما الإدارة المدنية الإسرائيلية التي أعيد تشكيلها وتعزيرها، تقضم، في كل يوم، ما تبقى من الصلاحيات المحدودة للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو.

وبينما تتسارع عملية الاستيلاء بمختلف الوسائل على الأرض، وتتفاقم عملية الاستيطان وتغيير معالم القدس العربية صوب استكمال تهويدها، ويتحدث المسؤولون الإسرائيليون، دون حرج، عن الضفة الغربية باعتبارھا أرضا إسرائيلية؛ نحن منهمكون في صياغة رسالة لنتنياهو، تشرح له مطالبنا الوطنية. والسؤال المباشر الذي يثيره ھذا النهج الغريب، ألم تكفِ العشرون عاما الماضية التي أهدرناها، في المفاوضات العبثية، بإشراف واشنطن المتحيّزة على رؤوس الأشهاد لصالح الطرف الإسرائيلي، لعرض مطالبنا العادلة أمام الطرف الآخر؟! أليست هذه وسواها، بما في ذلك الاتصالات والمفاوضات الأخيرة هي بمثابة منحة إضافية كريمة نقدمها للاحتلال لاستكمال مهمته في تغيير معالم الأرض المحتلة، وسدّ الطريق نهائيا أمام إمكانات قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس العربية؟

والمفارقة المثيرة أن يسيطر الجمود والعدمية على الساحة الفلسطينية، قيادة وتنظيمات، بينما المحيط من حولنا يغلي بالأحداث، والمناخ العالمي يشهد متغيرات هي، بشكل عام، لصالحنا؛ وقد تأكد هذا عبر تجربتنا الخاصة.

فقد تكشف للجميع، لدى توجهنا إلى للأمم المتحدة، حجم المخزون الهائل من الدعم والتأييد لقضيتنا الوطنية، وحصلنا علاوة على ذلك على عضوية إحدى مؤسسات الأمم المتحدة الهامة، وهي منظمة اليونيسكو، رغم المقاومة الإسرائيلية - الأميركية الضارية لذلك.

ولكن بدل أن يشكل هذا النصر قوة دفع حازمة لخطوات لاحقة ومتصاعدة في هذا الاتجاه، فقد أعقبه الانكفاء، تحت تهديد العقاب المالي من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتواطؤ دول الخليج، مع العلم بأن تجربتنا الملموسة تؤكد القدرة على شلّ هذا السلاح أيضا. فبالأمس القريب، وحتى قبل اندلاع الحراك الشعبي التاريخي في العالم العربي، حين جرى تقديم تقرير غولدستون حول جرائم الجيش الإسرائيلي خلال عدوانه على قطاع غزة، أواخر 2008وبداية 2009أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، مورست نفس الضغوط ومن نفس المصادر على الطرف الفلسطيني، من أجل سحب التقرير المذكور من أمام تلك المنظمة الدولية.

ومعلوم أن القيادة الفلسطينية رضخت، حينها، لتلك الضغوط وسحبت التقرير، ولكن حين اضطرت تلك القيادة، تحت الضغط الشعبي الغاضب الى وضعه من جديد أمام مجلس حقوق الإنسان، وتحققت الإدانة الدولية لتلك الجرائم الإسرائيلية، فان تلك التهديدات الأميركية والإسرائيلية بالعقاب المالي تبخرت؛ تحسبا من أن خطوة كهذه قد تفجر الوضع في المنطقة المضطربة والقابلة للانفجار، الأمر الذي لم يكن خافيا عن رصد الدوائر الأميركية والإسرائيلية علاوة على قناعة ھذه الدوائر بأن وجود واستمرار السلطة يخدم أهدافها أيضا، ولا سيما في ميدان التنسيق الأمني.

في ضوء كل ذلك، يبدو أن تفعيل الساحة الفلسطينية الى المستوى المطلوب، لم يعد يكفيه إصلاحات سطحية وتجميلية، بخاصة وأن الترهل والعجز ليسا قاصرين على القيادة الرسمية والسلطة، وإنما يطالا وبنفس المستوى، التنظيمات السياسية دونما استثناء، يمينا ويسارا. كما لا يعتقد أن تغييرا كهذا، في شموليته وجذريته، يشكل مهمة مقصورة على سكان الأرض الفلسطينية المحتلة، بل مهمة وطنية شاملة للفلسطينيين في الداخل والشتات، حينها، ستتهيأ الظروف لإعادة بناء ودمقرطة منظمة التحرير، كما يجب وكما يطمح الشعب الفلسطيني.

* نعيم الأشهب: سياسي ومناضل منذ الأربعينيات عضو مكتب سياسي سباق في حزب الشعب، صدر له عدد من المؤلفات منها دروب الألم دروب الأمل.