إسرائيل تحتفل "بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، على طريقة تنتهك قواعده!

بقلم: محمد زيدان*

في الوقت الذي تحتفل فيه البشرية "باليوم العالمي لحقوق الإنسان" بمناسبة الذكرى السنوية لإقرار الأمم المتحدة "للإعلان العالمي لحقوق الإنسانبوصفه واحداً من أهم الإعلانات الكونية التي تؤكد عالمية حقوق الإنسان وترابطها، فإن نظرةً على مكانة هذه الحقوق في إسرائيل خلال العام الحالي تشير بما لا يدع أي مجالٍ للشك إلى تراجعات جديّة فيما يتعلق بمستوى احترام هذه الحقوق، علاوة على تزايد المحاولات الرسمية للإنقضاض على الهامش - الضيق أصلاً- لهذه الحقوق. يبدو هذا من خلال تقديم مشاريع القوانين العنصرية المعادية بجوهرها ومنطلقاتها لكافة المعايير الأخلاقية والقانونية التي جاء الإعلان العالمي ليبشر بها.

عبر مراجعة سريعة لأوضاع حقوق الإنسان في إسرائيل لهذا العام، تظهر صورة قاتمة غير مفاجئة في تعداد انتهاكاتها. وبقدر ما هي غير مفاجئة، تتزايد المحاولات الرسمية لجعل تلك الإنتهاكات منظمة وقانونية تأخذ شرعيتها وديمومتها من خلال قوانين رسمية تضمن التمييز العنصري المأسس على قاعدة إنتهاك الحقوق بشكل فعلي مباشر، أو عبر وضع شروط وقيود قانونية من ِشأنها أن تفتح المجال أمام السلطات السياسية (التنفيذية) والقضائية بإنتهاكها متى وحيثما شاءت.

"حقوق الإنسان هي حقوق لكل إنسان، يتمتع بها الإنسان لا لسبب إلاّ لكونه إنساناً"... هذه هي القاعدة الأساسية التي قامت عليها كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهنا يتضح التأكيد على أن اقتراحات البرلمان الإسرائيليالكنيست- وقوانينه تتجاوز هذه القاعدة؛ لتجعلها تبدو على نحو أن حقوق الإنسان والمواطن هي حقوق تتكرم بها الدولة على مواطنيها "الصالحين" من وجهة نظرها؛ أي أنها تقوم على قاعدة إعتبار هذه الحريات والحقوق هبةً أو هديةً من الدولة وإمتيازاً ممنوحاً لمواطنيها لا حقاً من حقوقهم الأساسية. ويترتب على ذلك أن يصبح من حق الدولة (حكومة، برلمان، قضاء) سحب هذه الحقوق (واسترجاع الهدية) في ظروف تحددها وفق ما تراه مناسباً لمواقفها السياسية، والتي تقوم عليها تلك القوانين المقترحة. لذلك نجد هذا البرلمان يضع خلال العام الحالي مجموعة من القوانين، أقر بعضها، وأخرى أكثر منها في طريقها للإقرار، توضح مفهوم "المواطن الصالح" الذي "يستحق" هذه الحقوق من وجهة نظرها؛ بل وتضيق الحدود على هذا المفهوم لتجعله يقتصر على المواطن اليهودي- الصهيوني الذي يخدم في مؤسسة الجيش ومؤسسات الأمن الأخرى. هذا التضييق (الاقتصار) يجعل من غير الممكن للمواطن العربي -الذي يعيش تحت وطأة هذا النظام- أن يكون جزءاً من أي تعريف يشمله هذا "الكَرَم" السياسي الإسرائيلي.

وعلى الرغم من أن الطابع العنصري والتمييزي لتعامل دولة إسرائيل تجاه "الأقلية الفلسطينية" في البلاد ليس جديداً، بل تضمنه المفاهيم السياسية والقانونية "لدولة اليهود" منذ نشوءها؛ إلاّ أن المرحلة الأخيرة تمتاز بإنتظام الحملة وتحديد أهدافها بشكل لا يقبل الشك، من حيث: تضييق الحيّز الديمقراطي الذي يمكن الحديث من خلاله عن إحترام حقوق الإنسان - أي تقنين التعريفات لذلك الحيز- بالإضافة إلى وضع الشروط التقييدية على محتواه وتضييق حدوده. ينبني على ذلك وضع القوانين التي تضيق على الأدوات والأطر، والتي من شأنها أن ترفع لواء هذه الحقوق وتدافع عنها في أي نظام ديمقراطي بالعالم: أي خنق المجتمع المدني عامة ومنظمات حقوق الإنسان تحديداً، ولجم الجهاز القضائي بشكل عام، والمحكمة العليا بشكل خاص، إضافة لتشديد الرقابة وإشهار سيف الغرامات على الصحافة لمنعها من القيام بواجبها المحدد بتتبع سياسيات السلطة وبنقدها وفضح إنتهاكها.

شهد العام 2011 طرح سلسلة من اقتراحات "مشاريع" القوانين، حيث كان الهدف منها تحديد حرية التنظيم والتعبير، وحرية التفكير والمعتقد، وكان من جملتها إقرار "قانون المقاطعة" الذي جاء ليمنع منظمات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية منها، من المساهمة في الحملة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، التي أخذت تجتاح دولاً عدة إحتجاجاً على ممارسات إسرائيل القمعية للشعب الفلسطيني تحت الإحتلال. وقد جاء إقرار هذا القانون انطلاقاً من القاعدة ذات القاعدة التي انطلقت منها الكنيست الإسرائيلية لاقرار "قانون النكبة" في آذار من نفس العام، والذي يندرج ضمن محاولة الكنيست لفرض قيودها على الذاكرة الشخصية للأفراد والذاكرة الجمعية للفلسطينيين، وفرض أجندتها السياسية على كل ما هو غير يهودي فيها!
وفي إطار التوجه ذاته، والقائم على تقييد حرية الجمعيات الحقوقية، جاءت إقتراحات القوانين لفرض قيود على التمويل الحكومي الخارجي لهذه الجمعيات من خلال إقتراحات تشدد المراقبة - الموجودة أًساساً- على هذا التمويل، علاوة على اقتراحات لفرض ضرائب تتجاوز 45% على هذه المدخولات؛ الأمر الذي من شأن إقراره أن يؤدي للمساس بقاعدة العمل المتبعة من قبل تلك المنظمات الحقوقية.

وعلى الجبهة الأخرى يركز اليمين الإٍسرائيلي جهوده في سبيل إحكام السيطرة على المحكمة العليا بعد أن أجهز على السلطة التشريعية والتنفيذية؛ ليثبت سيطرته على أجهزة الدولة جميعاً، مدعوماً برأي عام لا يقل عنصرية يظهر في التأييد المتزايد في الشارع الإسرائيلي. كما يأتي هذا الهجوم بصورة إقتراحات تجيز للجهاز السياسي التدخل بشكل فاعل وواضح في حيز مسؤوليات وعمل الجهاز القضائي، هذا من خلال اقتراح قوانين تجعل تعيين القضاة في المحكمة العليا خاضعاً لإقرار الكنيست وموافقتها، إضافة لتغيير تركيبة اللجنة المسؤولة عن تعيين القضاة، وبالمستوى ذاته تغيير معايير تعيين رئيس المحكمة بما يضمن حجز رئاسة المحكمة لمرشحين يدعمون هذا التوجه اليميني في السياسة والقضاء.

وعلى طريق استكمال دائرة السيطرة اليمينية على مؤسسات الدولة بصورة مطلقة، فإن جزءاً من هذه الهجمة يوجه نحو الإعلام من أجل تحديد الحريات الصحفية؛ الأمر الذي ظهر من خلال قوانين تمثل رفع سيف دائم يهدد الصحافة بغرامات مالية باهظة تحت حجة "التشهير" بهدف إخراس صوت الصحافة المحلية، ومنعها من القيام بدورها كسلطة رابعة تقوم بمراقبة السلطات التشريعية والتنفيذية، وتمثيلها لنافذة تعريف للرأي العام المحلي والعالمي حول ما يحصل داخل هاتين السلطتين.

وفي سبيل تقديم صورة أكثر وضوحا، نشير إلى أن هناك اقتراحات قوانين تهدف الى توسيع المجال أمام المؤسسة التنفيذية لإعلان "حالة الطوارئولتضع بيد الحكومة صلاحيات مطلقة تقّيد الحريات المدنية والحقوق الأساسية، وتخولها إقرار صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن المختلفة في تعاملها مع المواطنين. ويترتب على هذا الإجراء، توسيع رقعة "الطوارئ" القائمة في الدولة منذ قيامها بحجة الأمن، وجعل صلاحيات السلطة التنفيذية حتى فوق القوانين التي وضعتها الكنيست بذاتها!

من هنا يظهر أن ما يجري داخل إسرائيل من تشريعات تجعل الصورة أقرب الى محاولة القوى اليهودية اليمينية السيطرة على منافذ حقوق الإنسان، وإغلاق الباب أمام الحريات الأساسية المحدودة أصلاً، من خلال إحكام السيطرة على السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، مستعينةً بأجواء الدعم والتأييد الشعبي- الإسرائيلي-الصهيوني- لهذه التوجهات؛ الأمر الذي يرسم صورة قاتمة أمام منظمات حقوق الإنسان، وواقعاً لا يمكن بأي حال من الأحوال إدراجه تحت مسميات ديمقراطية، مهما حاولت إسرائيل تسويقها وتجميلها أمام العالم. وهو ما يعني سقوط الكذبة حول "ديمقراطية إسرائيلويضع المجتمع بمؤسساته الرسمية والشعبية أمام تحديات تتطلب التحرك السريع لفضح هذه الصورة، والتعريف بعنصرية إسرائيل لا في ممارساتها في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 67 فحسب، بل في ممارساتها المنتظمة وقوانينها الرسمية التي تتناقض ومعايير حقوق الإنسان العالمية، التي تحتفل البشرية بها من خلال "اليوم العالمي لحقوق الإنسان"!

وأخيراً تؤكد هذه الصورة أن الدور العالمي لا يجب أن يقتصر على فضح تلك العنصرية؛ بل وجوب ان يتسع بمقدار الحاجة للتحرك بشكل فعال والإنتقال من النقد والتنديد الى الفعل المؤثر من أجل وقف الإنتهاكات ومكافحة العنصرية ووضع القواعد للرد عليها بما تمليه قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان.

____________________________________

* محمد زيدان: محام وناشط حقوقي، مدير عام المؤسسة العربية لحقوق الإنسان.