ملخص الورقة البحثية المرأة الفلسطينية بين اللجوء والعودة في رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل لأميل حبيبي

بقلم: وفاء زبادي*
تتناول هذه الورقة البحثية دور المرأة الفلسطينية في رواية المتشائل (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) لإميل حبيبي ما بين الأعوام 1948ـ 1972. وقد فازت هذه الورقة البحثية بالمركز الأول في جائزة العودة للعام 2009 في حقل الأوراق البحثية. وقد تم اختيار رواية المتشائل للدراسة والتحليل؛ لأنها تتناسب أولاً مع موضوع جائزة العودة، وهو دور المرأة الفلسطينية في اللجوء والعودة الذي اتخذته عنواناً لهذه الورقة، وثانياً لأن رواية المتشائل تعد من الروايات الفلسطينية التي وصفت وصوّرت حياة الفلسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1948 على مدى عشرين عاماً. كما شكلت هذه الرواية درساً في النضال الوطني، وأرّخت للشعب الفلسطيني اجتماعياً، وسياسياً، وأدبياً، عبر مراحل قضيته خلال الأعوام 1948ـ 1972. فالمتشائل من أهم أعمال حبيبي الأدبية الفلسطينية، إذ تعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 1948، وتمثّل وثيقة اجتماعية-تاريخية تسرد قصة شعب اقتلع من وطنه، وقد استطاعت أن تتجاوز الهمّ الفلسطيني الخاص، وتصبح رواية إنسانية عامة.

تتكون رواية المتشائل من ثلاثة كتب تجسّد المراحل الأساسية للتاريخ الفلسطيني الحديث. فسعيد المتشائل في هذه الرواية يرمز إلى الفلسطيني الذي بقي في وطنه بعد النكبة. ويعاد الفتاة الحيفاوية تمثل المرحلة السابقة للنكبة، بينما باقية الطنطورية تمثل روح المقاومة والتشبث بالأرض والهوية العربية في وجه محاولات الاقتلاع والترحيل بعد النكبة، حتى وقوع بقية الأرض الفلسطينية في الأسر مع هزيمة عام 1967. أما يعاد الثانية، ابنة يعاد الأولى، فإنها تجسد المرحلة الجديدة من الوعي الفلسطيني التي تبلورت بعد نكسة عام 1967، وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة. فإميل حبيبي في رواية المتشائل يؤرخ لتاريخ القضية الفلسطينية من عام 1948ـ 1972.

وقد آمن إميل حبيبي في رواية المتشائل بدور المرأة الفاعل، إذ ظهرت بصورة الحبيبة والزوجة والأم في المقاومة ضد الاحتلال. فهو لم يتعاط مع ثباتها ضمن نمط واحد، وإنما فتح الباب لتمثيلاتها كي تقوم بأدوار إيجابية مختلفة متأثرة بالأحداث التي مرّ بها الشعب الفلسطيني في تلك الفترة؛ لذا فقد قسم إميل حبيبي رواية المتشائل إلى ثلاثة كتب، كل كتاب حمل اسماً لامرأة، وهي: يعاد، وباقية، ويعاد الثانية.

يحمل الكتاب الأول من الرواية اسم (يعادإذ تبدأ رحلتها منذ خروجها من بيتها في الناصرة مشياً على الأقدام عبر شفا عمر؛ لتخبر أختها في حيفا بأنّ والدها قد ألقي القبض عليه من قبل جنود الاحتلال، حيث كانت يعاد قد تعرفت على سعيد المتشائل منذ زمن بعيد وتحابا. يعاد الحيفاوية تدرس في عكا، وهي حب سعيد الأول، وقد وصفها بالجرأة والشجاعة حتّى في حبها. فهي التي تسللت من الناصرة إلى حيفا دون إذن من السلطة، وجاءت تعاتب سعيداً متوهمة بأنه السبب في القبض على والدها؛ لتعاونه مع الاحتلال رغم أنه لم يفعل ذلك، فقد جاء جنود الاحتلال لإبعادها، وقد حاول سعيد منعهم؛ إلا أنه لم يتمكن نظراً لمقاومته الهزيلة. أما يعاد فقاومتهم بكل قوة؛ ألا أنها اعتقلت بتهمة الدخول إلى حيفا دون تصريح، ونفيت إلى ما وراء الحدود.
على الرغم من ذل سعيد وانكساره، تبقى يعاد القيمة الإيجابية في حياته، فهي تؤكد انتمائها لبلدها قبل خروجها منها بقولها "هذا بلدي، وهذه داري". أما الزمن الذي دارت فيه أحداث الكتاب الأول فتمتد من عام 1948ـ 1951، وقد وصف حبيبي فيه البيوت العربية المهجورة وأبوابها المكسورة. وركز فيه أيضاً على الجزء الذي عاشه كعربي في ظل دولة الاحتلال الإسرائيلي. وينتهي الكتاب الأول بعلم سعيد أنّ يعاد ما زالت حيّة وراء الحدود. فيعاد المرأة في الكتاب الأول يوحي اسمها بالعودة، وترحيل جنود الاحتلال لها، هو تعبير عن انتزاع شعب من أرضه وتفتيته بين النفي والبقاء تحت المعاناة. صرخة يعاد " إنني عائدة" فيها تصميم وعزم على العودة التي حلم بها المبعدون من الشعب الفلسطيني إلى الخارج.
أما الكتاب الثاني من الرواية فيحمل عنوان (باقيةالفتاة الطنطورية التي تعرّف عليها سعيد في جسر الزرقاء فأعجب بها، وهي تمثل وجهاً آخر ليعاد، فقد أصبحت زوجة له، فصفاتها تماثل صفات يعاد ما يؤكد أنهما وجهان لشخص واحد؛ لذا وصفها إميل حبيبي بأنّها تمتلك شجاعة غير عادية. فمبادرة المرأة إلى الحب عند إميل حبيبي لا تنفصل عن مبادرتها إلى القتال والمقاومة.
وقد تزوج سعيد من باقية بعد تنفيذ ما طلبته منه السلطات الإسرائيلية، وهو التحريض على الشيوعيين. وقد أنجبت له ولداً اسمه (ولاء) الذي انضم عندما كبر إلى مجموعة فدائية، وقام بإقناع أمه (باقية) بالانضمام إليه والهرب إلى ما وراء الحدود، فولاء لم يكن موالياً لأفكار أبيه، كما أن باقية لم تبق مع سعيد، بل هربت مع ابنها رافضة سياسة التواطؤ التي كان يمثلها سعيد المتشائل.
أما زمن الكتاب الثاني فيمتد من عام 1951ـ 1967، وقتما كان التنظيم الفدائي في خريف عام 1966 رمزا تاريخياً بدلالة تتعلق بانطلاق الثورة الفلسطينية التي هدف إميل حبيبي عبر ذكرها ربط فلسطيني الدّاخل بالخارج من خلال المقاومة. تأتي خاتمة الكتاب الثاني في الخامس من حزيران من عام 1967 وهو يوم النكسة.
فباقية التي رمزت إلى الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم بعد النكبة مصممين على الصمود على أرض الأجداد، وولاء يمثل الجيل الجديد الذي نما وتربى تحت سلطة الدولة الجديدة، فنشأ على الخوف والرعب والحذر الدائم، إلا أنه رفض الاستمرار في ذلك. ولعلّ دور الأم يبدو واضحاً في تنشئة ولدها على حب الوطن والكفاح المسلح ضد الاحتلال؛ لا يُستغربُ ذلك فقد نشأت باقية نفسها في أسرة مناضلة، وورَّثت النضال - الذي أنشأت ابنها عليه - من والدها، وقد نجحت في ذلك.
أما في الكتاب الثالث من الرواية يلتقي سعيد المتشائل بيعاد الثانية ابنة يعاد الأولى، حيث تتّصف بنفس الصفات من الجرأة والتّحدي، فجاءت تبحث عن أخيها سعيد الفدائي في سجن شطا، فتجد سعيداً الآخر(المتشائل) الذي توصيها به أمها يعاد الأولى. فيعاد تحسن الحديث والإصغاء والتصرف، وبذلك يؤكد إميل حبيبي صفات يعاد الايجابية.
فمأساة يعاد الثانية تظهر عندما أبعدها جنود الاحتلال بشكل أكثر تحضراً، فالمسؤول المعلم يعقوب يقرأ أوراقها، ويعتذر لها عن الأمر الجديد الصادر بإلغاء الإذن بدخولها إلى إسرائيل (حيفا)، وعن إلزامها بالعودة معهم إلى نابلس حالاً. وذلك على مرآى من نظر سعيد أبي النحس المتشائل الذي لم يستطع أن يفعل شيئاً لحمايتها، ومنع الجنود من إبعادها. فقد حدث ليعاد الثانية ما حدث ليعاد الأولى.
أما الكتاب الثالث فزمنه يمتد من عام 1967ـ 1974، ويستدل على ذلك أن يعاد الثانية تعود بإذن رسمي من السلطات الإسرائيلية لتبحث عن أخيها سعيد الفدائي القابع في سجون الاحتلال.
عند تأمل شخصية يعاد الثانية أجد شخصيتها تختلف عن شخصية يعاد الأولى، وليست صورة مكررة عنها، فالبنت ليست الأم وإن كانت امتداداً لها، وإن تشابهت الملامح والسِّمات العامة، فالطريقة التي أبعدوا بها الأم يعاد الأولى تختلف عن الطريقة التي أبعدوا بها يعاد الثانية البنت، إذ أن سعيداً لا يدرك هذه المسألة، فإميل حبيبي يقدم يعاد المتطورة ويبقى المتشائل كما هو، فأقصى ما يدركه سعيد أنه كان مخطئاً في ولائه الشديد، وأنه كان يتمنى أن يكون غير ما هو عليه، ويكف عن التعامل مع السلطات كما كان يفعل، ويتغير إلى النقيض، فهذا غير ممكن فامتداد يعاد الأولى إلى يعاد الثانية كما توحي يعاد الثانية باحتمال وجود يعاد ثالثة. والواضح أن الأحداث التي دارت حول يعاد وباقية كانت في أجواء من القمع والمطاردة والاقتلاع من الجذور الأمر الذي زادها تشبثاً أكثر بالوطن وإصراراً على التمسك به.
أما يعاد الثانية ابنة حبّ سعيد الأول (يعادفإنها ترمز إلى الطرف الآخر من الشعب النازح الذي لا زال حالماً بالعودة، فتدخل يعاد الثانية البلاد بإذن من السلطات الإسرائيلية بعد هزيمة حزيران 1967، عبر الجسور المفتوحة، وهذا يرمز إلى أن دخولها كان غير طبيعي في ظل الهزيمة، إذ أخرجتها السلطات بعد أن ألغت تصريح الدّخول.
فيعاد الأولى اللاجئة تثق بنفسها وبالعودة، وتعرف طريقها بعكس سعيد الذي لن يتغير، وسوف يبقى ينتظر، ولن يفعل شيئاً سوى الانتظار والسلبية. فهو ينتظر الأحداث أن تتحرك لتسجل ملحمة نضال هذا الشعب، وتتمثل في مقاومة ولاء، سعيد الفدائي، صمود باقية، وعودة يعاد الثانية إلى أرض الوطن بمختلف الطرق.
إميل حبيبي في روايته جعل شخصية يعاد نامية متطورة؛ فعندما غادرت البلاد إلى ما وراء الحدود قد تزوجت وأنجبت سعيد الفدائي