بقلم: سلمان أبو ستة*

إذا لم تغلب الحنكة السياسية، وإذا لم يتم أخذ القرارات المصيرية بموجب تمثيل كامل لكافة الشعب الفلسطيني، وإذا لم نتعلم من أخطاء الماضي بتغيير القواعد السارية وأسلوبها والقائمين عليها، فإننا مقبلون على كارثة أكبر من كارثة أوسلو وأعمق أثراً.
لو كان السعي الحثيث الذي نراه اليوم للإعتراف "بدولة فلسطين المستقلة"، قبل عام 1947، لصفقنا له حماساً، بل وبذلنا الأرواح من أجله، كما كان حال شعبنا منذ عام 1920.
لقد إعترفت عصبة الأمم حسب المادة 22 من ميثاقها بإستقلال فلسطين الكاملة غير المنقوصة من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى أم رشرش، ووضعتها تحت الانتداب فئة (أ) مثل العراق، أي دولة مستقلة، تحتاج إلى المساعدة من دولة الانتداب فقط لكي تبنى مؤسساتها.

لقد بيّن خبير القانون الدولي البروفسور جون كويجلي في كتابه الحديث "سيادة فلسطين" الأسانيد القانونية لهذا الإستقلال. ولدينا الحالة التوأم، العراق، التي أصبحت دولة مستقلة لنفس الأسباب وبنفس المسوغات القانونية.
لقد قوّض الإنتداب البريطاني هذه الدعامات القانونية باستجلابه المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وعدم سماحه بتمثيل نيابي فلسطيني طالما كانت أغلبية السكان فلسطينيين عرب. ثم قوضتها الصهيونية بإحتلال كل فلسطين على دفعتين.
وتاريخ الشعب الفلسطيني في ثوراته خلال الانتداب معروف للجميع، ومطالبته بالحرية والاستقلال في وطنه شغلت بريطانيا والعالم العربي طوال عهد الانتداب. ولم يتوقف شعبنا عن نضاله لتحرير فلسطين منذ الغزو الصهيوني عام 1948.
الفرق الكبير بين عهد الانتداب ويومنا هذا، أن الشعب الفلسطيني قبل عام 1947، كان مقيماً على أرضه، متجذراً بها منذ آلاف السنين، ولذلك فمطلب الاستقلال على أرض الوطن كان بديهياً، مثلما كان الحال مع كل المستعمرات والمحميات البريطانية.
أما اليوم، وقد حققت الصهيونية بالقوة المسلحة مقولتها الخرافية بتحويل فلسطين فعلاً إلى "أرض بلا شعب"، فقد أختلف الحال. وأصبحت الأولوية أن تعود فلسطين لتكون أرضاً يعيش عليها شعبها، كباقي الشعوب، وعندئذ يطالب شعبها بالاستقلال والحرية على أرض وطنه.
وليست مصادفة أن ينفذ بن جوريون، حتى قبل أن يعلن قيام إسرائيل وقبل انتهاء الانتداب، أكبر عملية منظمة للتهجير العرقي في التاريخ الحديث، بطرد أهالي 220 مدينة وقرية من ديارهم في فلسطين على الساحل ومرج بن عامر وطبرية، ثم طرد أهالي 400 قرية أخرى بعد إعلان الدولة. وليست مصادفة أن تكون عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة مشروطة بشرطين: الأول الالتزام بقرار التقسيم (181) والالتزام بقرار عودة اللاجئين (194).
قرار التقسيم هذا هو سابع محاولة منذ عام 1937 لتقسيم فلسطين بين أهالي البلاد والمهاجرين اليهود، وذلك لفشل مشروع إنشاء مجتمع يهودي في فلسطين، مجتمع وليس دولة، وفي فلسطين وليس في كامل فلسطين. كما كان المقصود بوعد بلفور.
نسمي هذا بالفشل، ولكنه في الواقع كشف الغطاء عن المخطط الأساسي، الذي عرفته بريطانيا والغرب طوال الوقت، وهو إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين خالية من العرب.

لم تتغير هذه الأحوال على مدى 93 عاماً منذ وعد بلفور حتى اليوم. لا يزال المخطط الصهيوني كما هو. ولا يزال مشروع تقسيم فلسطين قائماً، ولكن بدون أن يكون 80% من فلسطين لدولة عربية في مشروع اللجنة الملكية لعام 1937، أصبح 45% في مشروع تقسيم 1947، ثم أصبح 20% وهو قمة ما تطالب به السلطة الفلسطينية، وأصبح الآن 5% من فلسطين في برنامج نتنياهو.
وحيث أن أي قرار تقسيم دولي لم يفترض أو يتوقع طرد أهالي البلاد من ديارهم، ولا يمكن أن يقبل بتهجير عرقي لفئة من السكان على حساب أخرى، لذلك لم يكن مصادفة أيضاً أن طالب المجتمع الدولي إسرائيل قبل قبول عضويتها في الأمم المتحدة، أن تعيد الأهالي المطرودين إلى ديارهم الأصلية (قرار 194) بعد سنة واحدة من قرار التقسيم وأصرت عليه إلى يومنا هذا.
إذن، فالبديهية الأولى أن يعود اللاجئون إلى ديارهم في المقام الأول قبل أي مسعى آخر، لأن حق العودة هو حق غير قابل للتصرف، وهو أعلى مقاما من أي اعتراف بالاستقلال على أرض الوطن أو على أي جزء منه. فالاعتراف باستقلال الدول عملية سياسية متغيرة حسب الظروف، وواقع الحال في دول العالم التي تقسمت أو انضمت لبعضها في القرن العشرين شاهد على ذلك. ولم يحدث لأي منهم اقتلاع كامل من أرضهم كما حدث في فلسطين.
أما حق العودة، فهو مقدس لدى الفلسطينيين، وهو متجذر في القانون الدولي كحق لا يمكن نقضه أو المفاوضة عليه، فهو ليس سلعة معروضة للبيع. وكان هذا هو هدف إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أي "للتحرير"، وليس لتقسيم فلسطين، أو لإعطاء الشرعية لأي تقسيم لفلسطين.
وسبق أن ذكرت أن "السلطة الفلسطينية" تطالب بدولة على 20% من فلسطين، لأن "منظمة التحرير الفلسطينية" لا يمكن أن تطالب بتقسيم فلسطين ولا يمكن أن تقايض بذلك على حساب حق العودة الذي هو الأساس، ولكن القائمين على المنظمة اليوم ليست لديهم شرعية، ولم ينتخبهم أحد. ودون أن يتم إنتخاب مجلس وطني جديد يمثل 11 مليون فلسطيني، فلا يوجد تمثيل شرعي للمنظمة بكوادرها الحالية ولا لقراراتها أو مساعيها.
لا يزال تحرير فلسطين هو الأساس. وعندما دخلت قوات الدول العربية السبع عام 1948، بغرض "تحرير" فلسطين من الصهاينة فشلت لأنها إما دخلت لاقتسام فلسطين مع الصهاينة، وإما دخلت تحت ضغط شعبي بسبب المذابح في فلسطين، ولم تكن مستعدة لذلك لا من حيث النية أو القدرة. ولم تعد أي دولة عربية للحرب من أجل تحرير فلسطين منذ ذلك التاريخ. وبقيت مسؤولية التحرير على كاهل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية في الدول المجاورة .
وتحرير فلسطين ليس بالضرورة عملية عسكرية، فإنه يمكن أن يتم بوسائل أخرى أيضاً، كما تم في الهند وجنوب أفريقيا. المقصود بالتحرير في واقع الأمر هو نهاية المشروع الاستيطاني الصهيوني وسياساته العنصرية التي أهدرت دماء الأبرياء ودمرت الحجر والبشر وسلبت الإرث الفلسطيني التاريخي. وهو بذلك تحرير لليهود من الصهيونية التي جلبت عليهم الوبال، وخلقت في نفوسهم حالة نفسية مرضية من الخوف والرعب المستقرين في باطن العقل، رغم الآلة العسكرية الجهنمية، لأن هذا هو حال القاتل السارق الذي يتوقع القصاص.
ومن اللافت للنظر أن "تحرير اليهود من الصهيونية" لاقى صدى في أوساط اليهود خارج إسرائيل. فقد نشأت مجموعات يهودية متزايدة العدد والقوة في أمريكا وأوربا، تدعو إلى دولة ديمقراطية واحدة على أرض فلسطين. والمعنى المقصود هو أن المشروع الصهيوني قد فشل وأنه من الأفضل بقاء اليهود في فلسطين كمواطنين أهم من بقاء الصهيونية.
إذن ما هو المتوقع في سبتمبر القادم عندما يُعرض طلب فلسطين للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة على 20% من مساحة فلسطين التاريخية؟ ولماذا جندت إسرائيل سفرائها في الغرب، وجالياتها هناك في اللوبي الصهيوني، وأقلام دعاتها في الإعلام الذي تسيطر عليه؟
لو رفض الطلب، لبقى الوضع كما هو عليه. ولو قبل الطلب، كيف يمكن تنفيذه؟ لن تأتي قوات الناتو لتنفيذه. وستشجب الأمم المتحدة عدوان إسرائيل باحتلال "أرض دولة مستقلة"، وبذلك يرتفع كوم القرارات الدولية المعطلة شبراً أخر.
لكن الأخطر، والمحتمل، أن يكون هذا هو تذكرة شرعية للدخول في مفاوضات بضغط أوروبي، وراءه أمريكا، لقبول دويلة فلسطينية، بعد "مفاوضات شاقة" و"تنازلات مؤلمة". وعند الاتفاق سيرقص الكل فرحاً وتقام احتفالات في ساحة البيت الأبيض للتوقيع، أو ربما في فندق فخم في جنيف. هذه الدويلة ستكون ممسوخة لا تملك القدرة على الدفاع عن نفسها ولا تملك حدودها ولا سمائها ولا أرضها ولا تحت أرضها (المياه). ويتم الاتفاق على حدودها النهائية عن طريق تبادل الأراضي. هذه هي الدويلة التي يرى فيها بيريز والمرت أنه بدونها "ستنتهي إسرائيل".
الكلمة السحرية هنا هي "تبادل الأراضي". وهو المشروع الذي يسعى إليه نتنياهو ومن ورائه ليبرمان. ومن وراء الاثنين طاقم جغرافي سكاني يرأسه الروسي جدعون بيجر من جامعة تل أبيب، والذي يخطط منذ سنوات لتجهيز عملية طرد الفلسطينيين من الداخل، وعملية "تطفيش" الفلسطينيين في الضفة، ليبقى أقل عدد من العرب في اصغر بقعة من الأرض الفلسطينية. وهو نفس مشروع بن جوريون القديم ولكن بأسلوب مختلف. وربما، لو حصلت الطامة الكبرى، سيتم ذلك بموافقة فلسطينية غير شرعية.
المبدأ البسيط الذي ينقض هذه الخطة هو أن إسرائيل لا تملك الأرض التي احتلتها عام 1948 ولا الأراضي التي احتلتها عام 1967، ولذلك فمبدأ تبادل الأراضي باطل أصلاً. وهو فلسطينياً مخالف للميثاق الوطني الفلسطيني القاضي بوحدة التراب الفلسطيني، ولا يمكن أن تقبل به قيادة وطنية شرعية.
لكن الأدهى من ذلك، أنه تجذير لاتفاق أوسلو الكارثي. ومع أن تقسيم الضفة إلى أ ، ب ، ج كان إجراءً مؤقتا ريثما تقوم الدولة عام 1999 على كامل الضفة الغربية وغزة، إلا أن إسرائيل جذرت هذا التقسيم على الأرض واقعياً وقانونياً وإجرائياً.
ولذلك فإن المنطقة ج ستبقى بيد إسرائيل، والمنطقة ب ستكون فيها السيادة الفعلية لإسرائيل تعتقل فيها من تشاء أي وقت، مع ترك المهمات البلدية وتنظيف الشوارع للسلطة. وكما كتبت "عميرة هاس" مؤخراً في جريدة "هارتز" فإن منطقة ب أصبحت وكراً للصوص وتجار المخدرات ولا تجرؤ "السلطة" على التدخل فيها.
وتبقى منطقة أ لتكون الأقفاص التي يحشر فيها الفلسطينيون، أو من تبقى منهم، أو من طرد من الداخل إليهم، ليرتفع عليها علم الدويلة الفلسطينية المستقلة. وهذه الدويلة لن تكون بحال "دولة فلسطين" التي اعترفت بها عصبة الأمم عام 1920، ولن تكون "فلسطين" كما يعرفها التاريخ ويعرفها الشعب الفلسطيني. وستختزل كل الحقوق الفلسطينية في هذا الكيان، وسيعلن الإتحاد الأوروبي نجاحه الباهر في حل هذه المشكلة العويصة. واختزال الحقوق سيشمل إلغاء الحق الأساس وهو حق العودة إلى الديار، بالإدعاء الباطل قانونياً وتاريخياً، بأن العودة لا تتم إلى الديار الأصلية، وإنما إلى الأقفاص الفلسطينية، حتى وإن كان هناك متسع لملايين اللاجئين. وسيكون حل مشكلة هذا الفائض هو التوطين في المنافي.
والبوادر على هذا التوجه واضحة. ولم ينتبه الكثيرون إلى قرار الأمم المتحدة الأخير (A / RES / 65 / 98) الصادر في 20 يناير 2011 ، وعنوانه البريء "مساعدة اللاجئين"، والذي يجدد دورة وكالة الغوث (الأنروا) حتى 30 يونيه 2014. رغم أن القرار يذّكر بقرار 194 ويأسف لأن لجنة التوفيق من أجل فلسطين التي أنشئت عام 1948 لتنفيذ القرار لم تتمكن من إعادة اللاجئين إلى ديارهم، إلا أنه يشير إلى إتفاق أوسلو لعام 1993، ويطلب من الوكالة الاستمرار في عملها "إلى حين [حصول] الحل العادل لمشكلة لاجئي فلسطين".
كلمة "الحل العادل" هي اللغة التي استعملت في تفاهم بيلين – أبو مازن لعام 1994 والتي استعملت في خطة البحر الميت (التي أصبحت تعرف باسم تفاهم جنيف حيث الفندق الذي أعلنت فيه). وأُدخلت على المبادرة العربية بإضافة "متفق عليه" مع إسرائيل، وسببت ضرراً هائلاً لحق العودة في المناخ السياسي في العالم الغربي، لا يقل خطراً عن جريمة بيع الأراضي لليهود في عهد الانتداب. وتجاهل النص أن "الحل العادل" قد تم تسويغه قانونياً في قرار 194 عام 1948 وتكرر التأكيد عليه، وليست هناك حاجة إلى مفاوضات جديدة فارغة المضمون لتفسير معناه وأسلوبه.
ولذلك أعلن نتنياهو صراحة أنه يدعو إلى إسقاط حق العودة ثمناً لموافقته على رفع العلم الفلسطيني دولياً على أقفاص الضفة الغربية ومعسكر اعتقال غزة. وتسريبات الجزيرة والجارديان تشير إلى أن هذه الذهنية الفلسطينية كامنة في كل وقائع المفاوضات.
ولذلك تبرز الآن ضرورة قصوى، أقوى من أي فترة في تاريخ النضال الفلسطيني الطويل منذ وعد بلفور، لاختيار قيادة فلسطينية جديدة، ناتجة عن انتخاب ديمقراطي شامل، تعرف جغرافية فلسطين وما هي حقوق الشعب الفلسطيني فيها وتدافع عنها. وأقتبس من قول غسان كنفاني طيب الذكر: "إذا خسر المحامي القضية، فلنغيّر المحامي ولا نغيّر القضية".
---------
* نسخة مختصرة عن المقال نشرت في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 1/7/2011.
* سلمان ابو ستة: المنسق العام لمؤتمر حق العودة.