المسؤولية الفردية والجماعية للدول حالات الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان

بقلم: سيسيل غالوت*

القاعدة الأكثر شيوعا لرفض أو صرف النظر عن القانون الدولي العام واعتباره غير ذي صلة – أو حتى بالنسبة للبعض اعتباره غير موجود – غالبا ما يفهم على أن هذا القانون يفتقر إلى آليات المساءلة السليمة والفعالة في حالة الدول التي تنتهك التزاماتها بموجب القانون الدولي. ويميل عدد من الخبراء والدارسين وجزء هام من عامة الجمهور إلى اعتبار أن الدولة عليها التزامات قانونية بالفعل، ولكن هذه الالتزامات لا يجري تطبيقها إلا على الدول الأضعف عن طريق الضغط من جانب الدول الأقوى. ويمكن لهذا الرأي أن يبدو مسحوبا بشكل خاص على الوضع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث ترتكب إسرائيل انتهاكات خطيرة لالتزاماتها القانونية الدولية بدون أن تقيم وزنا لأية عواقب مهمة كما يبدو.

ومع ذلك، تلزم المعاهدات والقانون الدولي العرفي الدول، وتتيح فرض عقوبات على الدولة مرتكبة الخرق/خروقات. وللحقيقة أن هذه العقوبات مصممة لتتناسب مع نظام دولي يكون فيه مبدأ سيادة الدولة هو حجر الزاوية في تعامل الدول مع بعضها البعض، الأمر الذي يجعل تطبيق هذه العقوبات أكثر صعوبة، أو متاحة بدرجة أقل. ولكن على العكس من ذلك، ولأنها كانت مصممة بشكل خاص لكي لا تتسبب في المساس أو الإضرار باستقلال الدول وسيادته، ينبغي للمجتمع الدولي أن لا يبتعد خجلا عن تطبيقها عند الإقتضاء. والواقع أن تطبيق مسؤولية الدولة لا تتوقف عند الخرق الأصلي للقانون الدولي من جانب دولة واحدة، فإذا رفضت الأخيرة معالجة انتهاكها، فإن دولة ثالثة تتحمل مسؤولية القيام بالعمل، وبأن تتاح لها عدد من الأدوات للقيام بذلك.

قامت لجنة القانون الدولي (ILC) بجمع وتدوين القواعد المتعلقة بمسؤولية الدولة في: " قواعد حول مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليا" (من هنا فصاعدا قواعد "اللجنة"/لجنة القانون الدولي). فالدولة مسؤولة دوليا حينما ترتكب "فعلا غير مشروع دوليا"، وهذا يعني، عندما تقوم بانتهاك واحدة على الأقل من التزاماتها الدولية، سواء بموجب معاهدة، أم بموجب القانون الدولي العرفي. أولا، يجب على الدولة المسؤولة أن توقف الانتهاك إذا كان مستمرا، وعند اللزوم إذا كان ملائما، عليها إعطاء تأكيدات وضمانات بعدم تكرار الانتهاك في المستقبل. وثانيا، يجب على الدولة المسؤولة أن تقوم بجبر كامل الأضرار المادية أو المعنوية، الناجمة عن فعلها غير المشروع.

وفي حين أن هذه الالتزامات، ومبدأ مسؤولية الدولة تطورت في البداية في سياق الصراعات بين الدول ذات السيادة، وتطور القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين – بعد فظائع الحرب العالمية الثانية – والتي اعطت الرؤية القانونية حول المسؤولية الدولية الفردية في حالات انتهاك الحقوق الأساسية للفرد. ونتيجة لذلك، بدأ يظهر نظام الرد الدولي المتكامل على الانتهاكات الخطيرة، وأصبحت فكرة تدخل المجتمع الدولي مقبولة عموما، أي أنه يوجد للمجتمع الدولي ككل، وكل دولة على إنفراد، مصلحة في الوقف الفوري لأعمال شنيعة معينة. وجرت ترجمة ذلك عبر التطور الواسع النطاق للقانون الجنائي الدولي، وتم تحديد تعريف هذه الأفعال كجرائم مثل التعذيب، الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى انتهاكات القانون الدولي الإنساني.

في كل مرة يتم فيها صياغة قانون جديد، أو توسيع وتعزيز قانون قائم في سياق ممارسات الدول، يكون الهدف المعلن نفسه: منع ارتكاب الفظائع الجماعية مثل المحرقة النازية، أو بعد ذلك بعقود، مثل الإبادة الجماعية في رواندا. ومن أجل القيام بذلك، كان واضحا على الدوام بأن محاكمة الأفراد المسؤولين عن هذه الجرائم ضروري حقا، ولكنه غير كاف. ومثال ذلك، إنه في حين كانت تجري إبادة ملايين اليهود بينما أوروبا وبقية العالم تغض النظر عما يجري من فظائع – وحتى في بعض الأحيان، يساعدون الجناة – الأمر الذي أثار عاصفة كبيرة من النقاش حول التفسير المطلق لمبدأ عدم التدخل، الذي سمح بالقتل المنهجي واسع النطاق للسكان المدنيين، وفي نفس الوقت سمح بتوفير ذريعة لعدم تدخل الدول الأخرى.

وإذا ما تجاوزنا عصبة الأمم البائدة ما قبل الحرب العالمية الثانية، فإن منظمة الأمم المتحدة الحالية قد صممت جزئيا من أجل تجنب مثل هذه الأهوال، والمبدأ الأساسي المنصوص عليه في المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة يمنع استخدام القوة إلا بتخويل صريح من مجلس الأمن الدولي، والنتيجة الطبيعية للتكليف بالعمل من أجل السلام والأمن العالميين قد جاءت من أجل التأكيد بأن الفشل الذريع للمجتمع الدولي خلال حقبة ألمانيا النازية لن يتكرر ثانية. وحتى الآن، ولأكثر من مرة، والأسباب معروفة جيدا، فإن نظام الفيتو يسمح بالتسييس المفرط لجلسات مجلس الأمن، التي ليس من غير المألوف ألا تصل إلى نهاية مأساوية حول القضايا الحساسة. وأمثلة رواندا وكوسوفو مليئة بالأخبار المأساوية في هذا الصدد. ولهذا السبب، حاول بعض فقهاء القانون الدولي العالميين ان يحركوا حدود سيادة الدولة الذي جرت صياغته في إطار نقاش موسع حول "التدخل الإنساني". وفي مؤتمر القمة العالمية في عام 2005، وافقت الدول – ولو بصيغة ضيقة – على تعريف مفهوم مسؤولية الحماية، ولكن لم تتفق حقا على آليات تنفيذية، علاوة على اتفاقها أن أي تدخل عسكري بموجب مسؤولية الحماية، يجب أن يصرح به من قبل مجلس الأمن الدولي أولا.

ويشير هذا إلى حقيقة توافق الرأي بين أوساط المجتمع الدولي هذه الأيام، بأن إشاحة الوجه أو التنصل من المسؤولية عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أو للقانون الدولي الإنساني تقع حاليا لم يعد خيارا مقبولا. ولا ينبغي للشلل الموجود على مستوى الأمم المتحدة أن يشكل عذرا لعدم التدخل، لأن النقاشات حول التدخل الإنساني أصبحت لها شعبيتها على نطاق واسع منذ الفشل الذريع في منع الإبادة الجماعية في رواندا، وفي التعامل مع مأساة اللاجئين في كوسوفو. وغالبا ما يجري التركيز على ما إذا كان من المناسب أو غير المناسب القيام بإرسال قوات إلى البلدان التي تعاني أزمات خطيرة فيما يتعلق بحقوق الإنسان. والآن، إذا كان أي إجراء ينطوي على استخدام القوة العسكرية لا يزال يحتاج إلى مصادقة مسبقة من مجلس الأمن (على الأقل بالمعنى القانوني) – ويلزم التحقق انه تم اتخاذه بطريقة غير متحيزة، ولأن الأمر في نهاية المطاف يدخل ضمن اعتبارات التعدي على سيادة دولة، ويمكن أن يكون غير مقبول اخلاقيا، وان تكون له عواقب بعيدة المدى وخارج السيطرة، مثلما أظهر الغزو الأمريكي للعراق؛ فانه لا زال هناك مجموعة من الخطوات يمكن أن تتخذها الدول فرادى، وهي خطوات لا تنطوي على عمل عسكري، ولا تزال تمكن الدول من القيام بالرد على الانتهاكات الخطيرة.

وضع هذا المبدأ في المادتين 40 و41 من مواد "لجنة القانون الدولي"، عندما ترتكب دولة انتهاكا خطيرا "لقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العام"، ينبغي على الدول الأخرى- وفق مبدأ مسؤولية الدولة الثالثة- ليس فقط عدم الاعتراف بالوضع الناجم عن ذلك الانتهاك، ولكن أيضا عليها التعاون على أساس القانون من أجل وضع حد لذلك الانتهاك. وتصف المادة 40 من مواد لجنة القانون الدولي "الانتهاك الخطير" بأنه "فشل جسيم ومنهجي من قبل سلطات الدولة المسؤولة في أداء واجبها تجاه الانتهاك، بينما تحظر المادة 41 على الدول الأخرى (الثالثة) القيام بتقديم أي عون أو مساعدة للحفاظ على ذلك الوضع".

ومن المعروف أن القواعد الآمرة معروفة أيضا باعتبارها قواعد مقررة أو مطلقة، وهي مبادئ أساسية من مبادئ القانون الدولي المعترف بها من المجتمع الدولي الرسمي (من جانب الدول) بمجموعه، باعتبارها قواعد لا يسمح بأي انتقاص لها أو مساس بها، حتى في وجود معاهدات بين الدول. وفي حين أن نطاق هذه القواعد لا يزال مثيرا للجدل – فلا يوجد قائمة شاملة، ولا قاعدة راسخة لتحديد أي قاعدة قانونية تصبح قاعدة آمرة ومتى؟- ، فهناك مبادئ معينة أصبحت الآن ثابتة بقوة باعتبارها قواعد آمرة، مثل حظر الإبادة الجماعية والتعذيب. كما أن حظر الحروب العدوانية والتوسع الإقليمي عن طريق استخدام القوة منصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة – وتندرج أيضا تحت عنوان القواعد الآمرة.

إن قواعد لجنة القانون الدولي ليست الصك الدولي الوحيد الذي يشير إلى مبدأ مسؤولية الدولة الثالثة، فعلى سبيل المثال، تنص المادة الأولى المشتركة في معاهدات جنيف على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة باحترام وضمان احترام هذه الاتفاقية في جميع الظروف". ورغم ذلك، قامت كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة، البرلمان الأوروبي، إلى جانب العديد من المنظمات غير الحكومية والمراقبين الدوليين بالإعلان دوما عن شجبها لانتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب معاهدة جنيف الرابعة. ولكن حتى الآن، لم تتوقف مبيعات الأسلحة الأوروبية لإسرائيل ومنها، ولا تزال الاتفاقيات التجارية والتعاون العسكري والأمني المكثف مستمرة وقوية كما كانت دائما.

وما زال الحقوقيون منقسمون بشأن فيما إذا كان القانون الدولي "كما هو" (نصوص + ممارسة الدول)، يجبر الدول على اتخاذ خطوات ايجابية في كل مرة يقع فيها انتهاك، مثل تلك المذكورة في المادة 40، أو أنه (القانون الدولي) ببساطة يسمح (يخوّل) للدول بالعمل. وحتى لو قبل المرء (النقاش) للفرضية القائلة بأن الممارسة الحالية للدول، لا تسمح للتأكيد بشكل قاطع بوجود التزام بالتدخل (حتى بوسائل سلمية)، فمن الواضح في قواعد لجنة القانون الدولي، فضلا عن صكوك حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بأن الحد الأدنى هو أن الدول ملزمة بعدم المساهمة في الانتهاكات. على سبيل المثال، إن بيع الأسلحة إلى دولة تمارس الانتهاكات، فضلا عن تزويدها بمليارات الدولارات من الأموال كـ"معونة"، هو عمل يقع بالتأكيد تحت الوصف الذي توفره المادة 40 حول حظر تقديم العون أو المساعدة للحفاظ على الانتهاك، وهو انتهاك مباشر لالتزامات الدولة الثالثة التي تكون مسؤولة عن ذلك دوليا. ومن هنا، فإن الدولة الثالثة لديها العديد من التدابير الدبلوماسية التي تستطيع القيام بها، مثل الإدانة العلنية لأفعال الدولة المنتهكة، تعليق العلاقات التجارية والتعاون في المجالات الأخرى، استدعاء بعثاتها الدبلوماسية...الخ .

والحقيقة أن المشكلة لا تكمن كثيرا في عدم وجود صكوك دولية، مثلما هي في الشق الثاني الذي يخلق المعايير الدولية، ألا وهي ممارسة الدول. ومثال الاتحاد الأوروبي هو مثال له دلالته التامة في هذا الصدد؛ ففي الواقع، ووفقا لسياسة حقوق الإنسان المنصوص عليها في المادة 21 من النسخة الموحدة للمعاهدة حول عمل الاتحاد الأوروبي (TFEU)، فإنه من الشائع جدا العثور على يسمى "بند اشتراط" الالتزام بحقوق الإنسان في جميع الاتفاقيات الدولية للاتحاد الأوروبي، التي تم التعاقد عليها بعد عام 1995. كما تم تصميم نظام الاشتراط من أجل تمكين تعليق الاتفاقيات الدولية للاتحاد الأوروبي في حالة وجود انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من جانب الدولة المتعاقدة مع الاتحاد. وعلى سبيل المثال، دعا البرلمان الأوروبي في وقت سابق إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بسبب انتهاكات الأخيرة للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.

ونفس الشيء، قام الاتحاد الأوروبي في عام 1998 باعتماد "مدونة سلوك الاتحاد الأوروبي بشان صادرات الأسلحة"، والتي شددت في ديباجتها، من بين أمور أخرى، على أن الاتحاد "عاقد العزم على منع تصدير معدات يمكن أن تستخدم في القمع الداخلي أو في العدوان الخارجي أو تساهم في عدم الاستقرار الإقليمي". وتحدد المدونة الخطوط العريضة لثمانية مبادئ يجب احترامها من جانب الاتحاد وكل دوله الأعضاء في أية مبيعات للأسلحة، ومن بينها:
1. احترام الالتزامات الدولية للدول الأعضاء، ولا سيما العقوبات التي يقررها مجلس الأمن وتلك التي تقررها المجموعة الأوروبية، والاتفاقيات حول منع الانتشار النووي وأمور أخرى، وكذلك الالتزامات الدولية الأخرى.
2. احترام حقوق الإنسان في بلد المقصد النهائي لمبيعات الأسلحة.
3. سلوك البلد المشتري تجاه المجتمع الدولي، وبشكل خاص فيما يتعلق بموقفه تجاه الإرهاب، وطبيعة تحالفاته ومدى احترامه القانون الدولي. (مدونة سلوك الاتحاد الأوروبي بشأن صادرات الأسلحة، بروكسيل، 5 حزيران 1998)

وحتى الآن، وبالرغم من الحالة الإنسانية المتردية في قطاع غزة نتيجة للحصار الإسرائيلي الذي جرى التنديد به مرارا وتكرارا من قبل مراقبي الأمم المتحدة – وبدون الإشارة إلى العديد من الانتهاكات الأخرى المستمرة للقانون الدولي للاحتلال العسكري -، وبالرغم من العملية الإسرائيلية "عاصفة رملية" في جنوب لبنان في عام 2006، وتسببها في سقوط العديد من الضحايا المدنيين، فإن مبيعات الأسلحة من الإتحاد الأوروبي لإسرائيل خلال عام 2007 بلغت 200 مليون يورو.

لا يوجد أدنى شك بأن هناك حاجة لتحديث وتطوير نظام الاستجابة الدولية لحالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؛ ولا سيما أن الأمم المتحدة بحاجة ماسة للإصلاح، ومعظم المهتمين يوافقون على ذلك هذه الأيام. ولكن في الوقت الحالي، وحتى يتم ذلك، يمكن أن تجد الممارسة الفردية للدول مكانا جيدا للبدء بتطبيق النصوص والتوصيات الموجودة، في استجابتها لحالات الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

--------------------------------------------

* سيسيل غالوت: حاصلة على شهادة الماجستير القانون الدولي من الجامعات الأمريكية والفرنسية، وهي ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.