بقلم: د. نبيل شعث*

من بين الصور الأكثر تجسيداً للنضال الذي يخوضه أبناء شعبنا الفلسطيني في سبيل نيل حقوقهم المشروعة، صورة الطفل اللاجئ فارس عودة، ابن الأربعة عشر ربيعًا، الذي وقف أمام دبابة إسرائيلية متسلحاً بحجر وبعدالة قضية شعبه ومطلبه بالحرية والإستقلال. في هذه المناسبة، وهي الذكرى العاشرة لاستشهاد فارس والذكرى الثانية والستين لصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194)، والذي يدعو إسرائيل للسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، يتعيّن علينا أن نمعن النظر والتفكير في قوة الصورة التي يجسدها فارس الذي واجه جبروت المحتل وطغيانه في ذلك اليوم. فقد باتت هذه الصورة رمز الصمود ورن صداها في جميع بقاع العالم. بصفتي عضو الوفد المفاوض في منظمة التحرير الفلسطينية، أرى فارس رمزا من رموز أبناء الشعب الفلسطيني، بينما تمثل الدبابة قوة دولة إسرائيل وجبروتها، ويمثل الحجر الذي يحمله فارس في يده أداة من أدوات القانون الدولي العديدة التي يستطيع الفلسطينيون توظيفها وتسخيرها لمحاربة الاضطهاد الذي يواجهونه في كل يومٍ من أيام حياتهم

قد يتساءل القارىء ما الفائدة التي جنيْناها من الحجر الذي رماه فارس أو من قواعد القانون الدولي التي لا يمر يوم إلا لتُنتَهك؟ هم عديمو الفائدة على الإطلاق إذا لم تتوفر الإرادة والشجاعة لاستعمالهم. لقد أثّرت فيّ صورة فارس أيّما تأثير، بل إنها أثّرت في كل إنسانٍ شاهدها، بصرف النظر عن الموقف الذي يتبنّاه بشأن الصراع بيننا وبين الإسرائيليين, بالتحديد لأن هذا الفتى فهم تلك القوة واستوعبها، واستطاع بقناعته أن يستنهض ضمير العالم المغيَّب.

ليست القوانين مجرّد أدوات يمكن الدفاع بها عن إنسانٍ أو عن شعب، بل إنها توفّر القاعدة الضرورية لإقامة دولة فلسطين لتبسُط سيادتها على ترابها الوطني وتتّسم بقابليتها للحياة وبقدرتها على البقاء. لهذا السبب، لطالما استندت المواقف الفلسطينية بشأن أي اتفاقية سلام مع إسرائيل، على مبادئ القانون الدولي. فقرار مجلس الأمن الدولي (242) يشكل الإطار المطلوب لمعادلة الأرض مقابل السلام، أما فيما يخص إيجاد حل عادل ومنصف لقضية اللاجئين من أبناء شعبنا الفلسطيني، فالإطار قائمٌ في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194). ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟

يعني هذا الأمر، في المقام الأول، أنه يتحتّم على إسرائيل أن تعترف بدورها في خلق مشكلة اللاجئين ومنعهم من العودة إلى ديارهم على مدى العقود الستة الماضية. لتحقيق سلام شامل يتعين على إسرائيل الاعتراف بالمسؤولية. لقد كان هذا هو الدرس الهامّ الذي جعل النجاح يواكب جنوب أفريقيا في نفْض حكم نظام الفصل العنصري عن كاهلها.

في المقام الثاني، يتعيّن على إسرائيل أن تعترف بحقّ كل لاجئ من اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى دياره فيما بات يُعرَف اليوم بإسرائيل. لم ينفك المفاوض الإسرائيلي من تذكيري بأن حق العودة "لا يشجع على المفاوضات". من بين التسريبات التي أذاعها موقع "ويكيليكس" (Wikileaks) أنه جاء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوله بأنه لن يسمح لأي لاجئ من اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بلاده. بدورنا، نقول وببساطة لنتنياهو وكل من يوافقه الرأي: لن يكون سلام حقيقي وشامل دون تحقيق العدالة للاجئين الفلسطينيين. فقد أقرّت الولايات المتحدة بهذه الفكرة في إطار مساعيها للتوصل إلى حلّ دائم للصراع في يوغسلافيا السابقة. في الواقع، صرّحت وزيرة الخارجية الأمريكية في حينه، مادلين أولبرايت، بأن حق اللاجئين البوسنيين في العودة إلى ديارهم "غير قابلٍ للتفاوض". نحن من جهتنا نتّفق معها. إن الإحجام عن منح اللاجئين الفلسطينيين خيار العودة إلى ديارهم التي هُجِّروا منها سوف يبذر البذور التي ستُدير رحى المرحلة التالية من النزاع، وذلك لأن الشعب الفلسطيني – الذي يشكل اللاجئون ما نسبته 70% من أبنائه – لن يسلّم بمشروعية اتفاقية سلامٍ لا تقرّ بحقهم في العودة إلى ديارهم.

في المقام الثالث، يجب أن يحصل اللاجئون الفلسطينيون، بالتعاون مع الأسرة الدولية، على خياراتٍ حقيقية تفضي إلى وضع حد لحالة التشرد واللجوء طويلة الأمد التي يعيشونها ولوضعهم الذي يفتقر إلى الحماية. يجب أن تشتمل هذه الخيارات خيار العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها قسراً، أو توطينهم في دولة فلسطين أو عودتهم إليها، أو دمجهم في الدول التي تستضيفهم، أو إعادة توطينهم في دول أخرى. بغضّ النظر عن الخيار الذي يفضّله كل واحد من هؤلاء اللاجئين، يجب توفير الدعم المطلوب لضمان إعادة تأهيلهم، وذلك بتوفير التعليم والتدريب المهني والإسكان وأشكال المساعدة الأخرى التي تلزمهم على التكيّف مع أوضاعهم الجديدة في المجتمعات التي يختارونها.

فضلاً عما تقدّم، ينص القانون الدولي على وجوب ردّ الممتلكات التي سُلبت بشكل غير قانونيٍّ إلى أصحابها الشرعيين من اللاجئين والنازحين الذين شُرِّدوا إلى مناطق أخرى داخل فلسطين او خارجها. هذا هو الحل الأنسب لإنصافهم من جرائم الحرب التي مسّتهم. فإذا كان يتعذّر ردّ هذه الممتلكات من الناحية المادية أو إذا ما اختار اللاجئ التعويض بدل ردّ أملاكه التي تمت مصادرتها، يتعين تقديم التعويض التامّ والكامل له. نحن نعلم أن غالبية أملاك اللاجئين الموجودة الآن في إسرائيل خالية، لأن سلطات إسرائيل عملت، في بعض الحالات، على تحويلها إلى محميّات طبيعية بهدف إخفاء أعمال التطهير العرقي التي مارستها بحق أبناء شعبنا بين عاميْ 1947 و1949. لا يعني ردّ الممتلكات المسلوبة إلى أصحابها تشريد الإسرائيليين من أماكن إقامتهم، ففي الحالات التي تكون فيها ممتلكات اللاجئين مأهولةً أو لم تعد قائمة، فإن القانون الدولي والسوابق القانونية والقضائية ذات الصلة توفر المبادئ التوجيهية التي تبيّن لنا طريقة التعامل مع مثل هذه الأوضاع.

بالإضافة إلى ردّ الممتلكات إلى أصحابها، يحق للاجئين الفلسطينيين الحصول على التعويض عن الأضرار المادية التي لحقت بهم وعن الأضرار النفسية والمعاناة التي تكبّدوها جرّاء تشريدهم عن ديارهم وأرضهم على مدى ردحٍ طويلٍ من الزمن. هنالك عدد معتبر من اللاجئين لم يمتلكوا عقاراتٍ في فلسطين التاريخية، لهذا فإن التعويض عن الأضرار التي ترتّبت على تشريدهم من ديارهم وتهجيرهم منها يشكّل عنصرًا هامًا في أية صيغةٍ تكفل إنصاف اللاجئين برمّتهم.

لا يمكن رفْع الظلم الذي ارتُكب بحق اللاجئين الفلسطينيين بمجرد التوقيع على اتفاقية سلامٍ مع إسرائيل؛ بل يتعين الحصول على ضمانات من الدول التي تستضيف أعدادًا كبيرةً من هؤلاء اللاجئين ومن الدول الأخرى ومن المجتمع الدولي كذلك. اذ تستطيع هذه الأطراف، بمجموعها، أن تساعد في عودة اللاجئين أو إعادة توطينهم أو تعويضهم. معنى الأمر، أنه يتوجب التفاوض للتوصل إلى اتفاقياتٍ متعددة الأطراف من أجل ضمان توفير التمويل المطلوب وتوفير خياراتٍ ذات معنى للاجئين بهدف وضع حدٍّ لأوضاعهم التي تفتقر إلى الحماية.

هنالك العديد من االأمثلة حول المعايير المتبعّة لتنفيذ عودة اللاجئين إلى وطنهم، توطينهم وتعويضهم عن أضرارهم. تمثل البوسنة أحد النماذج الحديثة والمفيدة التي طُبِّقت في إعادة الممتلكات إلى أصحابها، كما يمكن الاحتكام إلى المطالبات الجماعية الدولية الأخرى كمصدرٍ نستنبط منه الممارسات الفضلى التي اتُبعت في هذا المضمار. أما الوضع الأمثل فهو اعتماد آلية التنفيذ الخاصة باللاجئين الفلسطينيين بحيث تكْفل لكل لاجئٍ تقديم مطالبته بالعودة/إعادة التوطين وبالتعويض إلى هيئةٍ إداريةٍ ينشئها المجتمع الدولي وكجزءٍ من برنامج العودة، يجب تقديم المساعدات المالية وغيرها من أشكال المساعدة للاجئين لكي يتمكّنوا من الاندماج في المجتمعات التي يختارونها. حيث أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من أكثر الجهات التي تعاملت مع احتياجات اللاجئين الفلسطينيين على مدى سنوات طويلة، فهي تضطلع بدورٍ هامٍّ في عودتهم أو إعادة توطينهم. في هذا السياق، يتعيّن إعادة تحديد تفويض هذه الوكالة وصلاحياتها، لأن نطاق عملها الحالي يقتصر على توفير الغوث والمساعدة الإنسانية لهؤلاء اللاجئين.

يرجح أن يصل عدد المطالبات إلى الملايين وأن تستغرق سنوات طويلة لمعالجتها، فإن التجارب التي مرّت بها الدول التي خرجت من أتون الصراعات تشير إلى أن إنجاز هذا الأمر ممكن – ونحن نستطيع إنجازه إذا ما تحلّينا بالعزم والشجاعة ذاتهما، اللذان تحلا بهما فارس، في توظيف الأدوات المتوفرة بين أيدينا من أجل بناء مستقبلٍ مختلفٍ، مستقبلٍ يقوم على أساس الاحترام المتبادل وسيادة القانون، مستقبلٍ يتيح للاجئين من أبناء شعبنا وضْع حدّ لحالتهم كلاجئين والعيش بكرامة.

--------
*د. نبيل شعث: عضو اللجنة المركزية ومفوض العلاقات الدولية لحركة فتح، عضو الوفد الفلسطيني المفاوض ووزير الخارجية السابق.