بقلم: عيسى قراقع*


بيروت خيمتنا الوحيدة
بيروت نجمتنا الوحيدة

بهذه الأشعار لخّص محمود درويش رؤيته الشعرية والوطنية نحو بيروت التي عاش فيها أطول فترة وأقسى مرحلة من حياته. مرحلة انفجرت فيها أشعاره مع انفجارات بيروت وما تعرضت له على المستوى الداخلي من حروب أهلية وطائفية، وعلى المستوى الخارجي من غزو واعتداءات إسرائيلية توجت بحصار بيروت عام 1982 وخروج م. ت. ف من لبنان وبدء مرحلة جديدة ومختلفة لواقع مسيرة الشعب الفلسطيني.

 

في الفترة الممتدة من 1973-1982 عاش الشاعر محمود درويش في بيروت، ترأس تحرير مجلة شؤون فلسطينية وأصبح مديرا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة الكرمل عام 1981. وقد ترك درويش بيروت بعد الغزو الإسرائيلي بقيادة شارون وحصارها وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا.

عاش درويش التجربة اللبنانية بكل تفاصيلها وتفاعل مع موجات بحرها وهدير أمواجها، محاولا حماية الفلسطيني من البقاء أكثر في الشتات، وخائفا أن يموت الفلسطيني أكثر في مطحنة صراعها العرقي، وكان وجهه الى فلسطين، قلبه يعشق بيروت المكان المؤقت والرائع ولكنه الغامض والقاتل معا.


وكانت مذبحة مخيم تل الزعتر هاجسه المرعب وهو يرى الصمت العربي والسلاح العربي يدخل الى بيروت ليقتل من فيها ولا يشرع نحو الاحتلال الإسرائيلي وهو القائل:
أيها النسيان : انك تليق بكل الأسماء ولكنك لن تكون تل الزعتر...

وكتب درويش قصيدته المشهورة أحمد الزعتر،
و من الخليج إلى المحيط ، و من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة
أنا أحمد العربيّ - فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار - فليأت الحصار
و أنا حدود النار - فليأت الحصار
و أنا أحاصركم
أحاصركم
و صدري باب كلّ الناس - فليأت الحصار

ويصف محمود درويش بيروت بالمدينة الملتهبة، مدينة المدن، وأنها صاغت كل من مرّ فيها ولم يقدر أحد على صياغتها ويقول: " عشت فيها عشر سنين أكثر مما عشت في حيفا، ولا يأذن لك احد بأن تواصل الإصغاء الى إيقاع ما فيها من أسرار".


في كل واحد منا بيروت، كنا هناك وما زلنا هناك فالبذرة لا تهاجر، وليس سهلا اقتلاع بيروت من البناء العضوي لمن يساهم في صياغة بيروت المضادة.

بيروت تفاحة
والقلب لا يضحك
وحصارنا واحة
في عالم يهلك

كانت بيروت أكثر من مجرد مكان لالتقاط الأنفاس، كانت حالة من الغليان القومي والفعل الفلسطيني، لذلك فإن أرض قصائد محمود درويش في بيروت قد لوّنت قصيدة الأرض بأصابع الشهداء والمقاتلين، الولادة والموت والبقاء والرحيل، المخيم وحق العودة، البحر والبّر، أسئلة الشاعر الذي لا يعرف إن كان يطل على وجه قنبلة أم على وجه فلسطين، وهل يعود محمولا على طائر الحرية الى بلده أم محمولا على تابوت.


أنه قلق الشاعر من المكان وحبه للمكان في آن واحد، محاولا أن يجد نافذة لمأزق الوجود الفلسطيني وهويته القلقة في بحر بيروت، وقد عبر الشاعر عن تلك المرحلة قائلا: " اعتبر أن المرحلة البيروتية في شعري ملتبسة بسبب ضغط الحرب الأهلية أولا، وبسبب الشعور بألم العاطفة ثانيا"، بيروت كانت في درجة الغليان، غليان المشاعر والرؤية، كانت محل حيرة.
قمر على بعلبك
قمر على بيروت
يا حلو، من صبّك
فرساً من الياقوت
يا ليت لي قلبك
لأموت حين تموت

وعندما سئل درويش هل تحب بيروت، قال: لم انتبه، فنادرا ما تحتاج الى التأكيد من أنك في بيروت، لأنك موجود فيها بلا دليل، وهي موجودة فيك بلا برهان، صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت، صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران.


أنا لا أعرف بيروت، ولا أعرف إن كنت أحبها أم لا أحبها ولعلّ الجميع أدركوا أن لا بيروت في بيروت، فهذه السيدة الجالسة على حجر صورة لزهر عباد الشمس تتبع ما ليس لها، وتجر عشاقها وأعداءها على السواء الى دورة خداع البصر، فتكون لهم أو عليهم ولا تكون لهم أو عليهم.

أنا لا أحبك
غمسّي بدمي زهورك وانثريها
حول طائرة تطارد عاشقين
وأنا أحبك
غمسي بدمي زهورك وانثريها
حول طائرة تطاردني وتسمع ما يقول البحر لي
بيروت لا تعطي لتأخذ
أنت بيروت التي تعطي لتعطي ثم تسأم من ذراعيها

لقد سجل الخروج الفلسطيني من بيروت نقطة تحول في تجربة درويش الشعرية، خاصة أن لغة المنفى كانت قد ضربت جذرا في لغة محمود درويش منذ أمد طويل، ووجدت في هذا الحدث الفاجع مبررا لصياغة ملحمة أو تراجيديا فلسطينية بحثت عن أصولها في انهيار بغداد وسقوط غرناطة وتراجيديا هوميروس.


وقد مكث درويش فترة لا بأس بها في باريس بعد خروجه من بيروت كتب خلالها رائعته النثرية " ذاكرة النسيان 1986" وهي اوديسا فلسطينية، سيرة ذاتية على شكل يوميات بيروتية تجري خلال يوم واحد من القصف الإسرائيلي الثقيل في السادس من آب 1982- يوم هيروشيما كما وصفها درويش.

وكان درويش قد وصف الحرب العدوانية الاسرائيلية على بيروت والجنون الهمجي الإسرائيلي وارتكاب المجازر والمذابح بحق الشعب الفلسطيني واللبناني في قصيدته التسجيلية الرائعة مديح الظل العالي.

أشلاؤنا أسماؤنا لا ... لا مفر
سقط القناع عن القناع عن القناع
سقط القناع
لا أخوة لك يا أخي، لا أصدقاء
حاصر حصارك لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوك... لا مفر
وسقطت قربك، فالتقطني
واضرب عدوك بي، فأنت الآن حرّ وحرّ وحرّ

بعد بيروت بدأ فصل جديد من مفاصل تجربة محمود درويش، ويمكن القول أنه أصبح واحدا من كبار شعراء العالم في القرن العشرين من خلال تركيزه على المشترك الإنساني وقدرته على صوغ الشخصي والجماعي الفلسطيني بطريقة بعيدة عن الشعاري والبطولي.


وبدأ درويش بعد تجربة بيروت القاسية يكتب التراجيديا الفلسطينية، نثرا وشعرا، (ورد أقل)، (هي أغنية)، (في حضرة الغياب)، (لماذا تركت الحصان وحيدا)، (أحد عشر كوكبا)، (لا تعتذر عمّا فعلت)، (اثر الفراشة)، (سرير الغريبة)...

أصبح درويش بعد بيروت صانع أساطير، يولد حكايات من حكايات وبطموح كوني وعالمي وإنساني:


وأرحل عن شوارعها
وأقول: ناري لا تموت
على البنايات الحمام
على بقاياها السلام
شكرا لبيروت الضباب
شكرا لبيروت الخراب

---------------------------------------------------------------------------------------------
* عيسى قراقع: كاتب وأديب، وزير شؤون الأسرى، عضو مجلس تشريعي، عضو الجمعية العامة لبديل.