حضور قوي ومميز للقضية الفلسطينية في أعمال المنتدى الاجتماعي العالمي
في بيليم- البرازيل              
في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني الماضي انطلقت أعمال المنتدى الاجتماعي العالمي الثامن في مدينة بيليم _ عاصمة الأمازون- شمال البرازيل. وكالعادة تجمع عشرات الآلاف من ممثلي الحركات الاجتماعية من معظم دول العالم للحوار والنقاش في الكثير من هموم العالم، وقضاياه واشكالياته المتوالدة، بسبب سياسة العولمة الرأسمالية، والتي تتجلى ترجماتها الإنسانية من خلال الحروب، وازدياد الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين البشر. والهوة المتسعة بين الدول الفقيرة والغنية، واستغلال خيرات الشعوب الفقيرة عبر سياسة الاحتلال أو السيطرة على مقدراتها بوسائل متعددة، سياسة مؤداها تعميق عوز  وفقر الفقراء شعوبا وأفرادا وازدياد ثراء الأغنياء. ليأتي المنتدى الاجتماعي العالمي برؤيته ورسالته نقيضا لمجمل السياسات الرأسمالية مؤكدا أن هناك نموذجا آخر من العالقة بين البشر تسوده العدالة والاحترام المتبادل والتكافؤ وفي المحصلة السلم والأمن بدل الحرب والكراهية. ولسان حال المشاركون وأصدقائهم ومناصريهم يقول "هناك عالم آخر ممكن".

انطلق المنتدى الاجتماعي العالمي الأول في السابع والعشرين من كانون ثاني لعام 2001 في مدينة بورتي اليغري في البرازيل، وأصبح تقليدا سنويا، فلا الزمان صدفة ولا المكان كذلك. فانعقاد المنتدى سنويا في الأسبوع الاخير من شهر كانون الثاني، يأتي متزامنا مع انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي، وهو على النقيض والتضاد معه من حيث الرؤية والبرنامج والأهداف.. الخ. فيما حمل مكان انطلاقه بعدا اجتماعيا- سياسيا، حيث كانت حكومة تلك الولاية تمثل الحركة الاجتماعية، ومنتخبة على أساس برنامج تلك الحركة حامل الرؤية اليسارية والاجتماعية التقدمية.

على امتداد محطات المنتدى الاجتماعي العالمي كانت القضية الفلسطينية حاضرة بكل ما تحمله من رمزية إنسانية كقضية عدالة ذات طابع إنساني بامتياز ولم تحظ أي قضية أخرى كما هذه القضية باعتبارها قضية شعب يناضل ويواجه آخر تجليات وترجمات الاستعمار والاحتلال بكل ما يعنيه من ظلم وامتهان للكرامة البشرية، وباعتباره يمثل الخرق الأكثر سفورا وبشاعة لحقوق الإنسان في العصر الحديث. ولان هذا الاستعمار ذو طابع وعمق عالمي ممثلا بالقوى الاستعمارية والرأسمالية ويمثل أداة ورأس حربه لها، فانه من الطبيعي أن يكون التصدي له ومقاومته أيضا ذو عمق وامتداد عالمي ممثلا بكل القوى الديمقراطية والتقدمية ودعاة الحرية على امتداد العالم. ببساطة تمثلت في القضية الفلسطينية حالة التضاد والصراع بين قوى العدالة والتحرر وقوى الظلم والقهر والاستعمار. من هنا كانت هذه القضية ذات حضور قوي في برامج ونقاشات المنتدى الاجتماعي دائما.

وفي هذا العام، حيث انعقد المنتدى في مدينة بيليم (بيت لحم) البرازيلية، وكان لحضور للقضية الفلسطينية نكهة خاصة. ففي المسيرة الافتتاحية للمنتدى يوم السابع والعشرين من كانون الثاني رفرف العلم الفلسطيني الكبير بمساحة 30م طول وعرض 10 أمتار ورفعته عاليا عشرات لا بل مئات الأيادي، ورغم الهطول المكثف للأمطار الاستوائية القوية بقي العلم الفلسطيني مرفوعا مرفرفا على امتداد ستة ساعات هي زمن المسيرة وأكثر من 20 كم هي المسافة التي شقتها تلك المسيرة، عبر شوارع المدينة من جنوبها إلى شمالها، وبمشاركة نحو 70 ألف إنسان حسب المصادر البرازيلية الرسمية في المدينة. وفي المسير تم توزيع عشرات الآلاف من البوسترات والنشرات التي تصور وتؤرخ للقضية الفلسطينية، وتبرز معالم العدوانية الإسرائيلية وخاصة ما حصل من حرب دامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة مؤخرا.

أما على صعيد النقاشات في القاعات والخيم الخاصة بمواضيع النقاش، فإننا لا نبالغ في الادعاء أبدا إذا قلنا إن القضية الفلسطينية كانت حاضرة في كل مكان وكل قاعة وكل خيمة. والاهم في كل الحوارات حتى الجانبية منها. هذا الأمر دفع احدهم  للقول " في أي مكان كنت أتواجد، وإذا بدا أي متحدث للحديث عن قضية تخصه ومن أي بلد كان فانه في سياق حديثة كان يعرج على القضية الفلسطينية، ان تحدثوا عن حقوق الإنسان، أو عن الحقوق الاقتصادية، أو عن جرائم الحرب ، أو عن العدالة والظلم أو المجازر ضد الإنسانية،  أو النضال والمقاومة فان المثل الفلسطيني هو المتجلي دائما".

وفي معظم النقاشات في أروقة المنتدى كان هناك ضغط ومطالبة بتبني قرارات وأفعال من قبل المنتدى بما يخص القضية الفلسطينية، وبالفعل هذا ما تحقق حيث كان الاتجاه قويا لتفعيل سياسة حملات مقاطعة إسرائيل على كل المستويات الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والفنية ... ولقد اتخذت بعض القرارات الهامة على هذا الصعيد وتم تبني التوصيات المقدمة من الوفد الفلسطيني لاجتماع الجمعية الدولية في المنتدى حول التضامن مع الفلسطينيين. واعتمد يوم الثلاثين من شهر آذار القادم والذي يصادف يوم الأرض يوما عالميا للتضامن وانطلاق النشاطات التضامنية على امتداد العالم، والذي  يتركز في رسالته على الدعوة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، ومعاقبتها كدولة ارتكبت المجازر وجرائم الحرب ضد الفلسطينيين ولا زالت تحتل أرضهم وتصادر حقوقهم في الاستقلال وبناء دولتهم وعودة اللاجئين إلى أرضهم. وعلينا ان نتخيل حجم الحضور للموضوع الفلسطيني، بان الجمعية اجتماعاتها المنعقدة على مدي يومي الثاني والثالث من شباط في أعقاب انتهاء أعمال المؤتمر وفي إطار نقاش التوصيات، كرست للقضية الفلسطينية اليوم الثاني كاملا وحتى في اليوم الأول كانت كلمات المتحدثين تركز على القضية الفلسطينية. وطبعا ما حصل من مجازر في قطاع غزة كان الأبرز. لدرجة ان الكثير من المتداخلين اقترحوا عقد المنتدى القادم في قطاع غزة. ودعي إلى إرسال وفد كبير من نشطاء المنتدى إلى القطاع لإبداء التضامن والاطلاع عن قرب على آثار المجازر الإسرائيلية في حربها الأخيرة.  كما ودعي إلى ملاحقة القادة والساسة الإسرائيليين في العالم على أنهم مجرمي حرب وتقديمهم للعدالة سواء في المحاكم الدولية أو الوطنية للدول.


وإذا عدنا إلى السياسات العامة التي يحتكم لها المنتدى الاجتماعي كمكان وفضاء للنقاش والحوار وطرح القضايا بعمومية، وعدم التطرق لحالات وأوضاع خاصة، رغم قوة التصدي للظلم والحروب ومسببات الفقر، وتهديد البيئة، وسياسات العولمة اللانسانية التي تناولتها أدبيات المنتدى، فان الحديث عن قضية مهمة بمستوى الإشارة لمقاطعة إسرائيل ومعاقبتها، وتبني نشاطات عالمية كما هو الحال في الثلاثين من شهر آذار سالف الذكر.  اعتبره الكثيرون انجازا ملموسا وجوهريا في صالح القضية الفلسطينية وقيموه على انه تقدما إلى الإمام في أجواء ورؤية المنتدى. وجاء استجابة لعشرات التوصيات المقدمة من جمعيات المنتدى ذات الاختصاصات المختلفة ولسان حال هذه التوصيات يقول" علينا التقدم خطوة إلى الإمام من العموميات والأقوال إلى الأفعال". ولقد ترجمت هذه التوصيات فيما يخص القضية الفلسطينية وهذا بحق انجاز كبير علينا ان نفتخر به والاهم نحن منظمات المجتمع المدني الفلسطيني ان نستثمره من خلال العمل مع كل المؤسسات والأفراد على المستوى العالمي لتطوير وتفعيل ودفع حملة المقاطعة في كل محفل دولي ووطني نستطيع الوصول إليه  أو التأثير فيه. والمهم أيضا ان نجعل منه ثقافة محلية وطنية من خلال عملية تنسيق وعمل مشترك واسع على امتداد فلسطين . ليكون الموقف والصوت والمناشدة والنشاط والرؤية والرسالة موحدة الهدف. بمقدار ما نحن موحدين نصبح أقوياء، وصوتنا مسموع، خاصة في قضية بمستوى حملة المقاطعة التي علينا ان نجعل منها ركنا مفصليا في نضالنا على المستوى العالمي.

ومما الهام هنا القول أننا لم نكن بحاجة إلى جهد كبير كما في الماضي لإيصال رسالتنا، ففي كل محافل المنتدى شعرنا ان الرسالة كانت قد وصلت سلفا ومعظم الحضور قد جاء ولديه ما يقوله في الموضوع الفلسطيني، لقد كانت رسالة الشهداء الأطفال وشلال الدم والفسفور الأبيض، والجثث تحت الأنقاض والقصص التي تقشعر لها الأبدان وقصة الصمود الأسطوري لشعبنا في القطاع، كلها كانت قادمة مع معظم الحاضرين من دول العالم إلى محافل المنتدى. لقد حضرت غضبا في هتاف المشاركين في المسيرة وأروقة المنتدى، وحضرت في قوة تعبير المتحدثين والمحاضرين في أعمال المنتدى. لقد حضرت فلسطين كقضية عدالة عالمية بما تستحقه على المستوى الشعبي والرسمي للمنتدى إذا جاز لنا التعبير.

-----------------
 احمد جرادات: ناشط فلسطيني، مركز المعلومات البديلة.