بقلم: إياد برغوثي*

 

صديقي حازم جمجوم،
أحاول منذ أيام أن أكتب لك المادة الأدبية التي طلبتها لنشرتكم "حق العودة"، أبدأ بالكتابة وأشطب الجمل الأولى، يبدو أنني لن ألبّي طلبك هذه المرة فاعذرني يا صديق.


أعتقد أنّ اللوم في ذلك يعود إليك بعض الشيء، إلى الموضوع الذي طلبت مني أن أكتب عنه: "فلسطيني الهوية- إسرائيلي المواطنة"، لقد مللت شخصيًا من هذا الموضوع، تعبت من تكرار وصف هذه الحالة المعقدة والمركبة، التي أحتاج لشرحها إلى سرد خلفية تاريخية تبدأ على الأقل منذ وعد بلفور لتصل إلى المظاهرات الضخمة ضد العدوان على غزة قبل أشهر، وتحتاج إلى شرح تفصيلي لسياسات الأسرلة وغياب المدينة وتشويه الهوية وطمس التاريخ وهدم العمارة ومصادرة الأرض والتمييز العنصري وتدعيم الشرح بالمعطيات الإحصائية والصور، تعبت من الشرح يا صديق.
لقد فكرت في البداية أن أكتب عن التناقضات التي يواجهها الفلسطيني في إسرائيل، لكني اكتشفت أنني تهت في غابة من الأفكار الفلسفية، تلك التي تؤكّد وجود التناقض في كل غابات الصراعات الإنسانية، وأن كل صراع يوّلد تناقضات عدّة في واقع المتصارعين. التناقضات حليب نرضعه في طفولتنا، ورفيقة دربنا الجبلي. أو أن أكتب عن أسئلتي حولها، ما هي أفضل السبل للتعامل مع هذه التناقضات، الهروب منها أم مواجهتها أم الخضوع لها؟ كيف أشرحها؟ هل أتتبّع سيرة مأساويتها؟ كيف أفسّر التعوّد عليها والتطبيع معها عند البعض؟ كيف أشرح تحويلها من مشوّهة لهويتنا ومعنى حياتنا إلى تهمة ضدهم عند البعض الآخر؟ كم مثلٍ علي أن أعطي عن التناقضات في واقعنا؟ ألف؟ مئة وستة وخمسون ألف؟ أم مليون ومئتي ألف؟ كم قصة تناقض تريد لترضي قرّاءك يا حازم؟
ثم فكرت أن أكتب لنشرتكم قصتي الشخصية، مخرج مناسب ربما من الوقوع في فخ اللغة الأكاديمية التي تلخّص القضية بحيادية وبمصطلحات علمية، ومن تكرار سلسلة الشعارات الوطنية المرضية لقراء "حق العودة" حول البقاء والصمود والتمسّك بالأرض ومقاومة العنصرية والتواصل ووحدة القضية.
فكرت أن اكتب قصتي كمهجّر في وطنه، التي بدأت من شرفة بيت أهلي في الناصرة المطلة على قرية صفورية المهجّرة، التي بنى الإسرائيليون عليها مستوطنة "تسيبوري"، والتي أمنع من السكن فيها لأنني فلسطيني، وعن اكتشافي لجذوري "الضفاوية" في الانتفاضة الأولى، وعن دراستي في جامعة تل أبيب في فترة الانتفاضة الثانية، عن ركوب الحافلات خائفًا من انفجارها وقلبي المتفجّر غضبًا على مجزرة جنين واجتياح نابلس ومحاصرة المقاطعة، وعن عكا الجميلة التي تزوجتها بعد أن انفصلت عن يافا المصدومة، وعن قسوة الصيف في كليهما- حرّ ورطوبة الساحل. ثم قررت ألا أكتب قصتي الشخصية، سأبقيها متنكرة بشخصيات أخترعها وأسميها بأسماء أخرى في القصص القصيرة التي أنشرها هنا وهناك، أو للرواية التي أؤجل كتابتها.
أعتذر يا حازم عن كتابة المقال، حاول أن تقترح موضوعًا آخر، أكثر تفصيلاً، لماذا علينا نحن الفلسطينيون في الداخل دائمًا أن نكتب بالعموميات والمصطلحات الكبيرة؟ لماذا علينا أن نبدأ بشرح قضيتنا من البداية كل مرة؟ وأن نبرّر وجودنا ونثبت فلسطينيتنا وعروبتنا؟ أعرف الجواب يا عزيزي، لكني منزعج من الحالة فلا تؤاخذني على غضبي.
حاولت أن أكتب عن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي يحمل المواطنة الإسرائيلية، لكنني وقعت في فخ التعميم ومحوت كل الأسطر، أخاف ألا أكون صادقًا أو دقيقًا، لأن هذا الجزء منقسم إلى أجزاء أيضًا، نحن شعب من أجزاء، للأسف (لو كانت تعددية لفرحنا بها، لكنها تفتت دون وعاء جامع وإطار ضابط). جزؤنا هنا أجيال مختلفة ومتصارعة، أحزاب متنافسة وأيدلوجياتها متباعدة: قوميون ديمقراطيون وشيوعيون وإسلاميون ومستقلون، مناطق ولهجات، طوائف وعائلات، مدن وقرى ومخيمات (حتى لو سموها أحياء)، ساحل وجبل، بدو وحضر، وطنيون وعملاء، حياديون وقياديون، أسرى وسجانون، عن أي جزء أحكي؟ وعن أي فترة؟ إننا هنا مثل أي جزء آخر وكل الأجزاء تتغيّر فيتغيّر معها الكل، هل توافقني؟
فكرت كي لا أخذلك يا صديق، أن أكتب عن الشباب الفلسطيني عندنا، لكني تراجعت لأنني وجدت نفسي متورطًا في شرح آثار النكبة على أجيال الفلسطينيين الذين بقوا في مناطق ال48 بعد التطهير العرقي، عن الجيل الأول وصدمته وآماله وخيبته وبحثه عن الأمان (الجماعة مرقوا نكبة ونكسة!)، عن الجيل الثاني الذي ولد تحت الحكم العسكري ونظام التخويف والسيطرة والبحث عن المساواة وعن يوم الأرض (بتعرف إنهم كانوا مجبورين على الاحتفال بعيد "الاستقلال"؟)، وعن الجيل الثالث وهبته وبحثه عن معنى ورموز وبقايا حجارة قرى الأجداد القريبة وحكاياتها، عن الثقة والبريق في العينين والحطة وحنظلة وخارطة كل الوطن، عن الذاكرة والنسيان، عن صيرورة ضد الصيرورة ونتائج تخالف سياسات القوي، ولو جزئيًا، حتى في ظل الانقسامات المخزية، فكرت أن أكتب لك عن الشباب الذين يسيرون بالآلاف في مسيرة العودة كل سنة ويتظاهرون على ال"فيسبوك" يوميًا، لكني خفت أن أزيد الأمل وأبالغ في رومانسية المشهد وانتقائيته وأرفع التوقعات، أنا حذر وأنت تعرف كم أخاف من خيبات أمل جديدة وكم أخشى اليأس.
بما أنكّ طلبت مني نصًا أدبيًا، قلت لنفسي "يا ولد، ضحّك الجمّاعة واكتبلك شوية ساتيرا، حاجة نكد"، وهناك ما يكفي من مواقف وقصص وتعليقات ساخرة لملء صفحات النشرة كلها وتحويلها إلى أول جريدة كوميديا سوداء فلسطينية، شيء ما يريدني أن أسخر من نفسنا، نحن في فترة علينا فيها أن نبهدل أنفسنا، علنا نصحصح قليلاً، وفي كل المناطق والأجزاء والدويلات والفتافيت الفلسطينية. عندي مادة عن فلسطينيي ال48، على فكرة، لقد ظهر هذا الاسم مجدّدًا بعد أن حذفت منه "المناطق المحتلة عام" لأسباب سياسية متعلقة بالأفق الواقعي للعملية السلمية والخطاب المبني على أساسه المتين، عادت هذه التسمية لتضاف إلى شلة التسميات الغريبة العجيبة، الخبيثة والخسيسة، التي تسمينا دون أن تسألنا، تخيل يا صديقي شعورك حين يكون لك على الأقل عشرة أسماء مستخدمة يوميًا من قبل جهات مختلفة تأخذك كل واحدة إلى ضفة مختلفة لترى منها الأمور كما تريدك هي أن تراها، تسمياتنا كثيرة وأهمها: عرب إسرائيل (مضاف ومضاف إليه، التبعية بعينها وبأفنها كمان، أهل الضفة يرتاحون جدًا لاستخدام هذه التسمية)، وعرب ال48 وهي تسمية دارجة في مصر والأردن، المزارات السياحية التي نغسل فيها أوسخ غسيل نفسيتنا المقهورة، وغالبًا ما تحمل معانٍ سلبية، وأسوأ ما فيها أنها تذكّرنا أننا منكوبون، وربما أفضل ما فيها أنها كذلك، وإسرائيل تسمينا المواطنين غير اليهود أو أبناء الأقليات...لن أكمل ترديد التسميات، زهقت.
أشعر بالرغبة أن أكتب نصًا ساخرًا عن كل الفلسطينيين، لكل مجموعة منا فلسطينها الخاصة بها، ومن كل خمسة فلسطينيين ثلاثة يريدون أن يكونوا رؤساء لشيء ما، وكل شيء ما ينقسم إلى ثلاثة أشياء ما أو أكثر، لكني إن كتبت عن هذا الموضوع أكون قد ابتعدت عن طلبك يا حازم، وأنت تريدني أن أكتب عن "فلسطيني الهوية-إسرائيلي المواطنة"، أعتذر، اختر موضوعًا آخر وربما تساعدني لوحة المفاتيح على الكتابة عنه.
هناك تناقض بين هويتي ومواطنتي، تناقض لن يزول مهما حدث، هناك فرق بين الواقع الذي أعي وبين الواقع الذي أريد، فرق لن يسدّه ما يحدث، هناك هوس يطاردني في كل صباح ومع كل نظرة من شباك السيارة وحوار مع أخ أو عدو، هوس البقاء وإبقاء اسم المكان ولغة المكان حيّة فيه وفي أهله الأصليين لكي أحيا فيه، هوس تربية الذاكرة لتصير وعيًا، هوس سيبقى ما دمت باقيًا حيًا، هوس يجعلني أتجاهل كل اللافتات الغريبة وكل البيوت القرميدية والبنايات الجديدة، وكل الأرقام عن العتاد العسكري وتفاصيل القوانين العنصرية، وكل موازين القوى وانقساماتنا وفشلنا، أتجاهلها بلا عقلانية حتى لحظة غضب جديدة تخرجني عن طوري. لا أبحث عن التوازن بين النقائض، أبحث عن فتحة في جدار العزلة لأصل ساحة التواصل مع عالمي العربي.
لن أكتب عن الموضوع، أعتذر، صديقي.

* كاتب وصحفي فلسطيني، يقيم في عكا، مسؤول التواصل والاتصال في اتجاه، اتحاد جمعيات أهلية عربية فلسطين المحتلة عام 1948.