أهمية الشبكات الفلسطينية في التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني


كان ولا زال المجتمع الفلسطيني يواجه الكثير من التحديات بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه وممارساته القمعية  بحق شعب فلسطين وكافة مكوناته؛ وليس هذا وحسب بل ويواجه خطر التصفية والتطهير العرقي التي كانت ولا تزال جزءا من التفكير الاستراتيجي لكثير من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وان اختلفت فيما بينها على كيفية التنفيذ وتوقيته.

ما حدث في قطاع غزه على مدار السنوات الثلاث الماضية، وتحديدا أثناء العدوان الشامل عليه في شهري كانون أول 2008 وكانون ثاني 2009 لهو أوضح دليل على هذه السياسة. وتنبع الخطورة الحقيقية من هذه الممارسات ليس فقط في مدى حجم الدمار والقتل التي تستطيع آلة الاحتلال القمعية تنفيذه؛ بل بمدى الصمت الرهيب والتبرير الأعمى لهذه الجرائم التي تبارى الكثيرون من المجتمعين: الدولي والعربي لممارسته.

وقبل الانسياق في تحليل دوافع هذا الصمت الدولي والعربي الرسميين وتبرير المجازر وجرائم الحرب المقترفة ضد الشعب الفلسطيني، علينا الوقوف على دورنا نحن في تشجيع هذا الصمت. هذه الوقفة لا تأتي من باب جلد الذاتـ، أو الظهور بمظهر المثقف "الواقعي" الذي يحلل الأمور بموضوعية بعيدا عن الحدث وبانسلاخ كامل عنه؛ بل بمسؤولية عالية نابعة من الحرص على دفع قضيتنا للأمام، ولتطوير حركة التضامن معها إلى مدى نستطيع البناء عليه حاضرا ومستقبلا. وفي هذا المجال، أقول أننا كفلسطينيين نتحمل مسؤولية كبيرة عن تخاذل الموقف الاممي الرسمي في تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية سواء في الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، أو في عدم توفير حاضنة لإسرائيل يسهل عليها الإمعان في العدوان ، كما حصل.  فالخلافات السياسية بين فتح وحماس، ووجود سلطتين تدعيان الشرعية، وحالة الانقسام والفصل بين الضفة وغزة، أضاف الكثير من الوهن على الموقف السياسي الفلسطيني واضعف من القدرة على قياده حركة التضامن التي تنامت بطريقة غريبة وسريعة في كافة أرجاء الكرة الأرضية وانسلخت تماما بمواقفها عن مواقف حكوماتها الرسمية؛ بل وتصادمت معها. وهذا بالضبط ما حصل محليا حيث انسلخت الحركة الشعبية، التي قادها بالمجمل مؤسسات المجتمع المدني وشبكاته التنسيقية، عن موقف بعض الأحزاب السياسية وبالتحديد عن السلطة الفلسطينية، التي لم تخرج تصريحاتها ومواقفها عن نطاق أي موقف لدولة عربية متفرجة؛ لا بل أمعنت في توجيه الانتقادات الداخلية وقمع المظاهرات الشعبية وهدرت الفرصة المواتية لترتيب البيت الفلسطيني وامتلاك زمام المبادرة، وقياده الحركة التضامنية الشعبية ودفعها للأمام لتحقيق انجازات سياسية. واكثر من ذلك، فقد وصل الأمر عند بعض المؤسسات والحركات التضامنية الدولية إلى الإحجام عن دعوة الممثلين الدبلوماسيين الفلسطينيين في دولهم لاجتماعاتهم التضامنية لحرصهم على عدم الهبوط في سقف المطالب التي طالبوا بها حكوماتهم.

هذا على الصعيد الفلسطيني الرسمي، أما على الصعيد السياسي الحزبي فأثبتت الأحداث أن ليس هناك بعد عربي أو دولي لأي من هذه الأحزاب. حتى الأحزاب ذات البعد الاشتراكي أو القومي أثبتت أنها تعمل وحدها وبدون امتدادات تحالفية، وفشلت في توجيه الحركة التضامنية، كما كان يحصل عادة عندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تقود حركات التحرر في العالم العربي وفي العالم. أما الاستثناء الوحيد فهو الحركات الإسلامية، وبالأخص حركه حماس، التي استطاعت تحريك بعدها الاخواني الإسلامي ليس فقط في العالم العربي والإسلامي؛ بل والعالمي. وهذا ما شهدناه في حركة الجماهير التضامنية في كثير من دول العالم.

الطرف شبه الوحيد الذي تحرك بسرعة وحاول أن ينظم الحركة التضامنية الدولية وان يتواصل معها إن كان على صعيد المرافعة والمناصرة، أو على صعيد تنظيم حركه التظاهر والمؤازرة، كان المجتمع المدني بمؤسساته وشبكاته التنسيقية.

فقد رأينا في وقت الهجوم والعدوان على غزة الكثير من المحاولات والمبادرات الناجحة من قبل المجتمع المدني، مؤسسات وشبكات، التي استطاعت التواصل مع نظيراتها في الحركات الدولية ومدها بالمعلومات والتحاليل. فقامت بتنظيم العديد من الزيارات للوفود المتضامنة، وعملت على الضغط على الحكومات، خاصة الأوروبية من خلال كتب الاحتجاج أو التظاهر أمام مكاتبها، كما وعملت على التواصل مع الإعلام العربي والدولي؛ لتوضيح وفضح ما يحصل من مجازر وجرائم حرب في غزة. هذا الجهد المتواضع كان مطلوبا أكثر من أي وقت آخر. وقد أثبتت هذه العلاقات مع حركات التضامن الدولي إمكانية تحريكها ودفعها لنصرة القضية ونصرة الشعب الفلسطيني. وهذا النجاح المحدود على المستوى الشعبي كان قد واكبه فشل ذريع على مستوى المناصرة والضغط على المستويين الرسمي أو الاممي. فقد فشلت كل محاولات المناصرة والضغط على الصعيد الحكومي؛ حيث وقفت أوروبا الرسمية صامته بل ومتآمرة ولم تفلح كل الضغوطات على إلغاء معاهده التجارة بينها وبين إسرائيل أو حتى التشكيك في أحقية إسرائيل كدوله غازيه منتهكه للقانون الدولي في الاستفادة من هذه الاتفاقية، وكل ما نجحنا به هو التجميد " اللفظي" لمفاوضات الانضمام للمعاهدة. هذا في حين نجحت العلاقة مع القوى الشعبية في العالم وعلى الأخص في أوروبا في تحريك الشارع للضغط على الحكومات من اجل التدخل لوقف العدوان. ورأينا كيف أن حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS) أتت ببعض الثمار من خلال العديد من العرائض التي وقع عليها العديد من الحقوقيين والأكاديميين وغيرهم، والتي تدعو لمقاطعه إسرائيل. ورأينا حركة الجماهير في منع الرياضيين الإسرائيليين من اللعب في بعض الدول.  باختصار، كانت الحركة الشعبية هي الطرف الوحيد الذي اثبت بعض النجاعة في العمل الدعوي والجماهيري ضد العدوان.

فحمله المقاطعة على سبيل المثال التي تشق طريقها قدما مبنية على عمل جماهيري أولا، ومبنية على مسارات هي أوضح من غيرها من الأنشطة والفعاليات ثانيا. فهي موجهة بالأساس للجميع كل في حقله. فالمقاطعة الاكاديمية موجهة للأكاديميين، وسحب الاستثمارات موجهة لرأس المال والمؤسسات الأخرى المستثمرة وهكذا. يضاف الى ذلك، تنوع وغنى اللغة المستعملة، فحيناً يكون القانون الدولي هو الأساس، وحينا تكون حقوق الإنسان، وحينا آخر الجانب الأخلاقي وهكذا.

وبعد أحداث غزة دخلت بشكل قوي فكره مقاضاة ومسائلة إسرائيل والإسرائيليين المساهمين في ارتكاب جرائم الحرب. وبرأيي إن هذه المعركة سوف تكون الأساس في المرحلة القادمة. وبإمكان المجتمع المدني قياده هذا المسار بنجاعة. فعلينا الانتظام أكثر من اجل قيادة هذا المشروع وعدم تركه أسيرا لأهواء بعض المؤسسات التي قد ترى فيه مجرد مشاريع مدرة للدخل، وعلينا العمل على تحويله لمعركة سياسية، حقوقية، وقانونية، ودفع الجميع للتنسيق الجاد فيما بيننا ومع الحركات والمؤسسات التضامنية العربية والدولية من اجل دفع هذه المعركة قدما، وإبقاءها على أولويات برامج الحركات التضامنية الدولية والإقليمية والمحلية. وهناك حاليا مبادرة تشكيل جسم تنسيقي لمؤسسات حقوق الإنسان من اجل قيادة هذا العمل ويجب على الجميع دعمه والتنسيق معه.

 وحتى لا اتهم بالمبالغة في الانجازات المحدودة المتحققة، أقول انه بالرغم من هذه النجاحات؛ إلا أن حركة المجتمع المدني الفلسطيني، مؤسسات وشبكات، لم تفلح في قيادة وتوجيه الحركة التضامنية للوجهة المطلوبة لتحقيق التراكم في الانجازات للوصول إلى مستويات أعلى من الانجازات، وفشلت في وضع أهداف محدده وواضحة أمام الحركة التضامنية لرفع مستوى الأداء واستمراره. وبالرغم من وجود اطر موحدة، كشبكة المنظمات الأهلية، ومبادرة الدفاع عن فلسطين والجولان المحتلتين، وشبكة المنظمات البيئية، وحملة وقف الجدار وغيرها؛ إلا أنها كلها لم ترتق لمستوى القيادة وإدارة المعركة والمبادرة الواعية والعمل على توزيع الأدوار، بحيث نضمن الفاعلية والسرعة والتنظيم، وبقيت بالإجمال أسيرة لرد الفعل والخطاب الانفعالي في معظم الأحيان.

 يرجع هذا الإخفاق برأي لمجموعة من الأسباب التي رافقت نشأة هذه المؤسسات والشبكات والحركات المدنية، وبعض هذه الأسباب نابع بالأساس من:

أولا: إن معظم هذه الشبكات هي بمجموعها تجميع لمؤسسات قائمة بينها الكثير من التنافس المؤسساتي: المالي والسياسي، ولم ترتق بعد لمستوي توحيد البرنامج والأهداف والفهم المشترك، وتقسيم العمل فيما بين المشاركين. فالمنظمات والمؤسسات غير الحكومية الفلسطينية لعبت خلال العقدين الماضين دورا مهما في توفير خدمات واسعة في ظل الاحتلال الإسرائيلي شملت كافة المجالات الحياتية. ففي مجال الصحة مثلا قامت هذه المؤسسات بتوفير ما لا يقل عن 60% من الخدمات الصحية للجمهور الفلسطيني؛ الأمر الذي فرض عليها النمو السريع وفرض عليها ضرورة صون هذه المؤسسات التي تحولت إلى عبء على منظميها بدلا من أن تكون الأداة لإحداث التغيير المجتمعي. وبقيام السلطة الوطنية الفلسطينية أدى هذا إلى خلق واقع سياسي واقتصادي جديد ساهم في بروز مجالات عمل جديدة وانحسار مجالات أخرى أصبح بعضها من مهام السلطة الوطنية، كل هذا اثر في العلاقة ما بين المؤسسات وفرض عليها حاله من التنافس فيما بينها منعها من التنسيق الجاد أو الوحدة.

ثانيا: عدم وجود رؤية وبرنامج واضحين لهذه الشبكات، ويرجع هذا برأي لنشأتها ولعظم الدور الخدماتي الذي كان منوطا بها. ومع التغيير السياسي الذي حصل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد اوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية على جزء من فلسطين، والتغييرات العديدة التي حصلت في الدور والمجال الذي لعبته المنظمات غير الحكومية في ذاك الوقت لاسيما في مجال التنمية والنضال الوطني الديمقراطي، لم تقم هذه المؤسسات بعملية مراجعة شامله لدورها وبرامجها.

بالرغم من هذا الضعف المؤسسي، إلا أن هذه الشبكات لعبت وتلعب دورا رئيسا على صعد كثيرة. فبالرغم من عدم تسيُّس هذه الشبكات، إلا أن لديها العلاقات الواسعة مع بعض الأحزاب المحلية، الأمر الذي يعطيها الإمكانية في التأثير فيها. ويجب استغلال هذه العلاقة ايجابيا للمساهمة في دفع الحوار الداخلي وتوطيد الوحدة الوطنية وتحديد المرجعيات الوطنية لحماية منجزات شعبنا.


وتستطيع هذه الشبكات المساهمة في توحيد الأطر المؤسساتية لشعبنا ليس فقط في الداخل بل وفي الشتات. ففي الوقت الذي تشهد منظمة التحرير حاله من الوهن وحتى التشكيك في أحقية تمثيلها للشعب، تستطيع هذه الشبكات دفع عمليه إصلاح المنظمة، وترتيب العلاقة، مع أطرها الشعبية على الأقل للمحافظة على الثوابت الفلسطينية والوحدة الوطنية.

وبالرغم من التشبيك الفعال مع المؤسسات والشبكات الدولية المتضامنة مع قضيه الشعب الفلسطيني، لا زال بإمكانها تطوير هذه العلاقات أكثر. فعلى هذه الشبكات واجب المساهمة في التثقيف السياسي للمتضامنين الامميين وترسيخ تضامنهم المبدئي مع الشعب الفلسطيني، وليس التضامن الموسمي كلما حدثت مصيبة أو مجزرة بحق الشعب الفلسطيني. فتطوير العلاقة مع حركه التضامن ودفعها لتصبح أكثر جذرية هي مهمة أساسية علينا التصدي لها بكل فاعلية. ولأجل ذلك علينا القيام ببعض الخطوات الأساسية اللازمة؛ مثل توضيح الرسالة وعدم تناقضها مع بعضها البعض.

تستطيع هذه الشبكات التفاعل والتنسيق أكثر مع المجتمع المدني العربي ومكوناته المختلفة من اجل تعميق البعد الاستراتيجي للحركة الشعبية الفلسطينية، ومن اجل المساهمة الواعية في المناصرة لقضية الشعب الفلسطيني في دولهم وعلى النطاق الدولي العام. ولا ننسى أهمية ايلاء الشراكة مع دول الجنوب لذات الاهتمام، حيث إننا نرى أن الاهتمام الفلسطيني منصب فقط على دول الشمال. قد يكون هذا الاهتمام محقا، حيث أن صنع القرار محتكر في دول الشمال، لكننا لا نستطيع أن نلغي القوة الأخلاقية التي تستطيع توفيرها دول ومنظمات الجنوب. وفي هذا المجال، يجب تطوير هذه العلاقات لتشمل ليس فقط هذه المؤسسة أو تلك بل لكل الشعب الفلسطيني ومؤسساته المختلفة.

ولتطوير عمل هذه الشبكات أكثر علينا العمل على توحيد كل هذه الشبكات في لجنة تنسيق واحدة لقيادة العمل الأهلي في فلسطين وخلق امتدادات مناطقية لها في كافة أرجاء الوطن لضمان التنفيذ السريع والاطلاع على هموم المؤسسات ومواجهتها. ويجب أيضا إقامة لجنة دائمة للتنسيق مع الشبكات العاملة ضمن الخط الأخضر.


ختاما وحتى نستطيع تطوير العمل التضامني وتوجيهه بما يخدم قضيتنا الوطنية أؤكد مرة ثانية على انه يجب على الشبكات الفلسطينية توضيح رؤيتها وأهدافها وصياغة استراتيجيات لعمل المناصرة والدعاوى وذلك بالارتكاز على رؤية شاملة وواضحة ومفاهيم ومصطلحات موحدة. ويجب العمل مع كافة مكونات العمل المدني لتحديد الأولويات وان لا تبقى الأمور رهنا بمزاج هذه المؤسسة أو تلك ويجب بناء استراتيجيات العمل بالارتكاز على التمسك بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وفي مقدمتها حق العودة، وتقرير المصير، ومستندة أيضا على تجارب حركات التحرر العالمية في مجال النضال والمرافعة والمناصرة والتحشيد.

--------------

 رفعت عودة: رئيس الحركة العالمية للدفاع منذ 2005، ومدير فرع فلسطين منذ تشرين الثاني 2008، ناشط، وله العديد من المؤلفات.